“خالد وصيف” يكتب :عندما يهاجم النيل “الغزاة” ويهرب “المماليك”
د خالد وصيف
خبير موارد مائية
مصر هبة النيل، والنيل حارس مصر وحاميها، العلاقة بينهما ليست علاقة نهر بارض، لكنها علاقة وجود وعشق متبادل من طول عشرة والتصاق دام من عمر الزمان، وحكاية النيل الذى يحرس مصر ليست كلاما رومانسيا او حواديت للتسلية، هى حقائق مدعمة بشهادات المؤرخين.
فى زمن الحملة الفرنسية اول القرن التاسع عشر.. انطلق نابليون بجيشه فاحتل الاسكندرية واخذ طريقه للقاهرة حتى التقى المماليك عند امبابة فى واقعة شهيرة .انهزم فيها المماليك هزيمة منكرة وفروا هاربين بعد ان انقسموا جزئين، واحد هرب الى الشام بقيادة ابراهيم باشا، والاخر اتجه جنوبا الى الصعيد بقيادة مراتد باشا حتى وصل الى النوبة ليحتمى فيما وراء الشلالات.
وجد المصريون انفسهم لاول مرة وجها لوجه امام آلة حربية متقدمة، بلا سلاح او تدريب، وهم الذين اوكلوا مهمة حمايتهم لقوات اجنبية طوال مئات السنين، وتفرغوا للزراعة والبناء والتعمير، بعد ان تم حل الجيش المصرى فى أواخر عهد الفراعنة. هب المصريون لمقاومة الفرنسيين بكل ما اوتوا من قوة، ووقف النيل معهم يقاوم الغزاة، فلم يهنأ نابليون وجنوده بالاقامة فى مصر يوما واحدا بدون ثورة وضحايا من الفرنسيين، وبدات المقاومة تتزايد كلما اتجهت قوات نابليون جنوبا للسيطرة على الصعيد.
قسم نابليون قواته اثناء حملة الصعيد نصفين الاول بقيادة “الجنرال ديزيه” الذى اتخذ الطريق البرى، والاخر اتخذ نهر النيل عبر مجموعة كبيرة من السفن الحربية تحت قيادة السفينة “ايتاليا”، وهى السفينة الخاصة بنابليون شخصيا والاثيرة لديه. ونظرا لاتجاهات الريح المعاكسة وضحالة منسوب النهر فقد تاخرت السفن خلال مسارها بالنهر عن اللحاق بالفرقة البرية حتى وصلت جنوب قنا فى مارس عام 1799 وحينما شاهد الاهالى سفن الفرنسيين فى النيل قرروا مقاومة المحتلين.
هاجم الاهالى السفن وأطلقوا عليها الرصاص، فردت السفن باطلاق المدافع فقتلت عددا كبيرا، لكنه لم يثن الاهالى عن الاستمرار فى الدفاع عن بلدهم فنزلوا النيل وسبحوا فيه تحت وابل قذائف السفن، واستولوا عليها وأفرغوا شحنتها من الذخائر على شاطئ النيل، ثم اتجهوا الى السفينة الكبيرة “ايتاليا|.
حينما شعر قائد السفينة باقتراب الاهالى جن جنونه وظل يطلق القذائف التى انهالت على رؤوس الاهالى وقتلت الكثير منهم، لكنها خلقت تصميما لدى الباقين على ضرورة الاستيلاء عليها، وحينما شعر قائد السفينة باصرار الاهالى على المقاومة، حاول الهرب من مسرح المعركة بالسفينة، وهنا تدخل النهر ليلعب دوره فى المعركة ويساند المصريين، فقد شحطت السفينة بعد ان غرزت فى منطقة ضحلة بالمياه وتعطلت حركتها، فقام القائد باشعال مخزن الوقود لتتحول السفينة الى كتلة نار ترمى بشظاياها فى كل اتجاه وتحصد أرواح الاهالى الذين اقتربوا من السفينة.
والقى القائد الفرنسى نفسه هو وجنوده فى الماء، شجع اندلاع النيران فى السفينة باقى الاهالى فى قنا على الانضمام للمقاومة بعدما شاهدوا اقاربهم وجيرانهم وقد اصابتهم نيران السفينة، فيما خفف باقى الاهالى من ملابسهم وسبحوا فى النهر وهم يطاردون الجنود الفرنسيين.
وتقع معركة اخرى بالايدى تنتصر فيها الارادة المصرية فيقتل القائد الفرنسى وكل الجنود الذين رافقوه على أيدى الفلاحين البسطاء، وكانت اكبر خسارة تلحق بالجيش الفرنسى أثناء وجوده بمصر فقد خسر فى تلك المعركة 500 ضابط وجندى.
بلغت انباء الهزيمة نابليون أثناء وجوده فى الشام وهو يحاصر مدينة عكا فحزن حزنا شديدا وتشائم من فقد سفينته المحببة لديه “ايتاليا”، وكان حدسه فى محله فقد نالت ايطاليا استقلالها عن فرنسا بعد عدة شهور من جلاء الحملة الفرنسية عن مصر، وأصابت نابليون الهزائم المتوالية حتى انتهى منفيا كسيرا فى جزيرة سانت هيلانة.
الغريب فى تلك المعركة ان المؤرخين لم يذكروا قائدا مصريا للمقاومة فلم نعرف من قاد ومن خطط ومن نفذ، إنهم الاهالى وكفى، هم من تولوا أمرهم ودافعوا عن بلدهم، ومعهم نهر النيل مؤيد ومساند وغاضب على كل محتل ومغتصب.