الأخبارحوارات و مقالات

“أبراهيم أبو العيش” .. أضاء شمعه و”رحل” !

د.اسماعيل عبد الجليل رئيس مركز بحوث الصحراء الاسبق

اختار ابراهيم ابوالعيش بأرادته العوده فى السبعينات من رفاهيه الحياه فى المانيا بعد حصوله على درجه الدكتوراه مصطحبا شريكه حياته النمساويه الاصل الى قريته “مشتول السوق” بحلم عبقرى فريد تجاوز آفاق الاستثمار التقليدى السائد آنذاك الى طموح بناء مجتمع زراعى حضارى جديد فى الظهير الصحراوى لقريته.. وبعد ان رتب اولويات مشروعه قرر ان يكون استثماره الاول فى البشر من اهل قريته لتأهيلهم لحلمه المنتظر وهو سر نجاح ابو العيش خلال نصف قرن او اكثر وهو ايضا سر فشل حكوماتنا المتعاقبه فى اقامه مجتمع حضارى زراعى جاذب لأستقرار شباب الخريجين بالرغم من الاموال الطائله التى اهدرت تحت مسميات التنميه البشريه والتنميه الريفيه والتنميه المستدامه وغيرها من المصطلحات التى اعتدنا استخدامها فى المؤتمرات والمحافل الدوليه ولكنها لم ترى تطبيقا فعليا لها سوى فى مجتمع ابو العيش وهو مااثار فضول الاجهزه الامنيه واهتمامها بفتح ملف لابو العيش فى امن الدوله لخروجه عن المألوف !!! الغريب هنا ان الاسباب التى اثارت فضول الاجهزه الامنيه كانت هى ذات اسباب حصول ابو العيش على جائزه” نوبل البديله ” فى التنميه المستدامه وجوائز والقاب عالميه اخرى !!
بالفعل خرج ابو العيش عن المألوف حينما ادرك مبكرا حاجته الى كتائب من العماله الماهره فى كافه الحرف وايقن بأن الطريق المختصر اليها هو الاستعانه بعدد من ” اسطوات الصنعه ” الالمان للعمل اليومى بمشروعه فى بلبيس مع العماله المتاحه من القري المحيطه لتأهيلهم للعمل بالتقنيات الحديثه بالأضافه الى اكسابهم فضائل الثقافه الالمانيه فى الانضباط والابداع والدقه وهي رؤيه عبقريه اسفرت خلال شهور قليله عن مولد مجتمع تزامل فيه الاسطوات الالمان مع صبيانهم الشراقوه فى منظومه صنعت مشاهد يوميه نادره لتزاوج حضارتين حينما تتابع ” كلاوس ” فى طريقه للورشه على ظهر حمار و” انجيلا ” تحلب الابقار بمساعده ” ام محمد ” والاسطى “مسعود ” منهمكا فى صيانه الجرار مع الخواجه “هورست” !!! مشاهد يوميه مثيره لكنها حققت نجاحا باهرا على المستوى التقنى والانسانى والثقافى وتضاعف النجاح بمرور سنوات طويله ارتقى خلالها الصبيان الى مرتبه الاسطوات لتدريب غيرهم وتلاشت خلالها الحدود الفاصله بين الشراقوه والخواجات فى الاجيال المتعاقبه حينما تزامل اولادهم فى المدارس التعليميه التى اسسها ابو العيش لهم بموقع مشروعه الذى تجاوزت اصداء نجاحه حدود محافظه الشرقيه الى العالميه كنموذج مثالى للتعاون الدولى واستثمار الموارد المحليه بينما لم يحظ للأسف بنفس القدر من اهتمامنا بأعتبار ان زامر الحى لايطرب !!
المثير هنا هو تطوع بعض الاجهزه الامنيه وغيرها للفتوى بتقارير مفادها بأن هذا النموذج التنموى هو “فرنجه” افقدت اهل القريه ثقافتهم الريفيه تحت تأثير “غسيل مخ” انبهارا واعجابا بالمجتمع الآلمانى !!!! وهى قضيه تستحق ان نناقشها بصراحه والا نخجل من طرحها لسبب او لأخر وبالأخص انها ليست قضيه خاصه بهذا النموذج فقط بل يتكرر الحديث الهامس عنها مع كل محاوله اصلاح وتطوير يخالف مااعتدنا عليه ولو كان سيئا !! وبمناقشه اصحاب هذه المزاعم نكتشف امرا فى غايه الغرابه وهو انكارهم لحق اهل القريه فى ممارسه مايتاح لأهل المدينه .. وهو امر لامبرر له طالما ان الممارسه فى الاطار الاخلاقى والدينى للمجتمع .. ممارسه اطفال القريه الفقراء للموسيقى والغناء والتمثيل ليست حراما.. واحترافهم لهوايه الرسم والصناعات اليدويه داخل اكاديميه للفنون ليست حراما والعجيب ان تلك التقارير تجاهلت حقيقه ان ابو العيش كان يعمل تحت مظله مشروع حكومى مسماه آنذاك ” مشروع مبارك – كول ” للتعاون الفنى المصرى الالمانى ولم يحقق نجاحا حقيقيا سوى فى نموذج ابو العيش التنموى الذى شاء القدر ان يكون ابلغ رد على انتقاداته هو تلك الحشود الهائله من الفقراء والبسطاء التى اصرت برغم الصيام وحراره الجو ان تودعه بحب ووفاء وعرفان الى مثواه ألاخير فى باطن الارض التى عمرها ووسط الحقول التى زرعها !
عبقريه ابو العيش كانت فى اختياره الثانى بعد تنميه البشر وهو استثمار الطبيعه التى تتمتع بلدنا بمزايا نسبيه هائله بها لكنها لم تر الاستثمار الامثل لها لدرجه ان حجم صادراتنا منها لايتجاوز 1% من السوق العالمى ..كنوز من الثروه النباتيه البريه النادره والطبيه والعطريه التى تؤهلها لصناعه الادويه والمستحضرات والمشروبات الشافيه شرط زراعتها بطريقه حيويه تضمن خلو منتجاتها من مصادر التلوث كأضافه الاسمده البلديه للتربه بدلا من المعدنيه مما يحفز الكائنات الحيه كالبكتريا والفطريات والديدان الارضيه على اداء وظائفها الحيويه بكفاءه بعيدا عن الاسمده المعدنيه والمبيدات التى تثبط عملها ..والى أخره من ممارسات زراعيه تسعد الطبيعه وتحافظ على توازنها ومن هنا كان ابو العيش كالمايسترو لأوركسترا تعزف من نوته الطبيعه !!
والمعروف ان الزراعه الحيويه المتزايده الانتشار فى عالم اليوم تستمد جذورها من قدماء المصريين ومن هنا كان ارتباط ابو العيش بالحضاره المصريه القديمه لدرجه اصراره على اطلاق اسماء فرعونيه على شركاته ومنتجاته كأزيس وآتوس وليبرا وغيرها كعلامه للجوده والتميز فى اسواق العالم..
د.ابراهيم ابو العيش الذى رحل عن عالمنا فى شهر مبارك كان صاحب رساله فريده استهلها ببناء مجتمع منتج متحضر تضاعفت مكوناته الى جامعه واكاديميه للعلوم والفنون ومدارس ومصانع ادويه ومراكز للتعبئه والتصدير و..و فى خمسين عاما لم تدفعه لحظات الاحباط واليأس خلالها الى فكره العوده الى المانيا هربا من سياط البيروقراطيه التى كان يقابلها عاده بأبتسامه ساخره وهو ماهداه ان تكون وصيته الاخيره المدونه على جدار قبره الى الله وحده ..
” عندما اموت يارب سوف ارجع اليك وقد بذرت البذور باسمك مخلصا ومنك الحصاد ..يارب لقد اوقدت هذه الشمعه فيارب حافظ على نورها من ظلام العالم ” !.

 

زر الذهاب إلى الأعلى