الأخبارالمياهحوارات و مقالات

د خالد وصيف يكتب : الحجر يتكلم فى مئوية ناصر

خبير موارد مائية

فى مئوية الرئيس جمال عبد الناصر التى تحل هذا الشهر، هل هناك جديد مما يستحق ان يروى عنه بعد ان شغل الدنيا وانشغلت هى به مدحا وقدحا منذعام 1952 وحتى الآن؟

خصوم عبد الناصر يرون اخطائه عظيمة، يأخذون عليه غياب التعددية السياسية والاعتماد على الاتحاد الاشتراكى كمظلة وحيدة لمن يرغب فى العمل العام، واللجوء الى العنف المفرط مع المعارضين، والتبشير بمشروع وحدة عربية استنزف موارد مصر وادخلها فى صراعات اكبر من طاقتها. ودراويش الناصرية يرونه نبيا صاحب رسالة انتصر فيها للفقراء والمهمشين ونأى بمصر عن الاحلاف العسكرية واحتفظ بقدر كبير من الاستقلال الوطنى. وتبقى النظرة الموضوعية التى تضع الرجل فى مكانه اللائق به فى تاريخنا. هو مثل كل الزعامات التاريخية عظيم بانجازاته وباخفاقاته ايضا او كما قال محمد مهدى الجواهرى شاعر العراق: عظيم المجد والاخطاء

بعد مائة عام على ميلاد عبد الناصر وقرابة نصف قرن على وفاته اتذكر كلمة الرئيس السادات التى وصف عبد الناصر فيها انه آخر الفراعنة. وهى كلمة صحيحة لحد كبير. الفرعونية حضارة زراعة وبناء، الزراعة تقوم على مياه الفيضان التى تجرى فى النهر، والبناء يعتمد على الاحجار بانواعها من الجيرى الى الجرانيت، والتى يتم نحتها من الجبال التى تحوط النهر وتحمى مياهه من التسرب والضياع. وحد مينا الوجهين البحرى والقبلى ثم اقام الجسر الايسر لنهر النيل ليحفظ للنهر مساره فى اتجاه الشمال بدلا من هدر المياه فى رمال الصحراء الغربية. رمسيس الثانى لم يجد افضل من جوانب النهر قرب الشلال الاول ليقيم عليها معبده الضخم الذى خلد انتصاراته العسكرية. محمد على حفر شبكة كاملة من الترع ورافقها باقامة القناطر الخيرية.الاهرام مثال آخر لحضارة البناء والسعى للخلود، لولاها ماذكر احد حتى الان خوفو او خفرع او منكاورع، الذين جاءوا ضمن سلسلة طويلة من 23 اسرة حكمت مصر عبر اربعة آلآف سنة. لكن هؤلاء فقط يتردد اسمهم فى العالم كله بسبب الاهرام. ويأتى جمال عبد الناصر ليجسد الحلم الفرعونى القديم فى القرن العشرين ببناء السد العلى

السد العالى هو درة اعمال جمال عبد الناصر ومفتاحه لقلوب المصريين بعد ثورة 1952، بسبب تمويل السد اضطر عبد الناصر لتأميم قناة السويس، ليجد نفسه بعدها فى مواجهة عنيفة مع قوى الاستعمار القديم التى وجدتها فرصة للانتقام منه وتاديبه، تحقق لمصر انتصار سياسى كبير فى عام 1956 ساعدت فيه القوى الجديدة التى ارادت قطع ذيل الاسد البريطانى من منطقة الشرق الاوسط. بعد النصر انتقل عبد الناصر من طبقة رؤساء الدول الى مصاف حكام مصر العظام الذين تناقلوا تقاليد الفرعونية من جيل لآخر

حجم السد العالى يفوق ب17 مرة حجم الهرم الاكبرالذى يضم مليون حجر وزن الحجر الواحد 2 طن، وهو أكبر مشروع هندسي في القرن العشرين من الناحية المعمارية والهندسية متفوقا في ذلك علي مشاريع عالمية عملاقة أخري, وأقيم السد العالي لحماية مصر من الفيضانات العالية التي كانت تفيض علي البلاد وتغرق مساحات واسعة فيها أو تضيع هدرا في البحر المتوسط.

بني السد العالي بأيد وإرادة مصرية خالصة,وشارك في بنائه نحو35 ألف مهندس وفني وعامل وتم تنفيذ هذا الصرح الضخم عبر عدة مراحل بدءا من تقدم المهندس المصري اليوناني الأصل أدريان دانينوس بمشروع لحجز فيضان النيل وتخزين مياهه وبداية الدراسات بناء علي قرار مجلس قيادة ثورة1952 من قبل وزارة الأشغال العمومية( وزارة الموارد المائية والري حاليا) وسلاح المهندسين بالجيش ومجموعة منتقاة من أساتذة الجامعات, مرورا بوضع تصميماته وإقرارها في ديسمبر1954, ثم مرحلة تمويله التي شهدت ملحمة مصرية تداخلت فيها الهندسة مع السياسة مع الاقتصاد, بعد أن رفض البنك الدولي تقديم التمويل اللازم لبناء السد, فاضطر مجلس قيادة الثورة إلي تأميم قناة السويس لتوفير سيولة كافية لتنفيذ المشروع, الأمر الذي أدي إلي العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 واندحاره.

انطلق العمل في بناء السد في التاسع من يناير عام1960, من خلال عدة مراحل تم خلالها حفر قناة التحويل والأنفاق وتحويل مياه النهر إلي قناة التحويل والأنفاق والبدء في تخزين المياه بالبحيرة وبناء جسم السد حتي نهايته وإتمام بناء محطة الكهرباء إلي أن انطلقت الشرارة الأولي من محطة كهرباء السد العالي في أكتوبر1967, وبدأ تخزين المياه بالكامل أمام السد العالي منذ عام1968, وفي منتصف يوليو1970 اكتمل صرح المشروع, وفي15 يناير1971 تم الاحتفال بافتتاح السد العالي.

حمي السد العالي مصر من كوارث الجفاف والمجاعات نتيجة للفيضانات المتعاقبة شحيحةالإيراد كما حماها من أخطار الفيضانات العالية,علي مدار تسع سنوات (1987 وحتي1996)عانت مصر من فيضانات منخفضة الإيراد ولم يشعر المصريون بذلك لإمداد السد العالي لهم بما يحتاجونه في تلك السنوات من مياه, ثم بدأت الفيضانات تتوسط وترتفع منذ عام1996 وحتي الآن, ولولا وجود السد العالي لتكبدت الدولة نفقات طائلة في مقاومة هذه الفيضانات وإزالة آثارها المدمرة.

فى مئوية جمال عبد الناصر هناك تاريخان للسد العالى، الاول هو مرور ثمانية وخمسين عاما لوضع حجر الأساس فى ‏9‏ يناير‏1960,‏ والثاني هو الذكري السابعةوالأربعين علي افتتاح السد والذي يوافق‏15‏ يناير‏1971‏، وفى تلك المئوية تتحدث حجارة السد لتقول الكثير

 

زر الذهاب إلى الأعلى