د احمد حسين يكتب: تطوير منظومة التفتيش علي الجودة لضمان الامن الغذائي
المدير الفني لقطاع الزراعة والأغذية بشركة SGS وخبير الصحة النباتية
تعتبر الجودة من المفاهيم التي تم الاعتناء بها منذ منتصف القرن العشرين عندما طُرحت لأول مرة فكرة “مستوى الإنتاج” في مقابل “كمية الإنتاج” والتي كانت تستخدم كمقياس للتقدم والنمو منذ عصر الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والثورة الخضراء في أوائل القرن العشرين. وتعرَف الجودة على انها مجموع صفات وخصائص منتج او خدمة او نظام معين تتوافق فيه مع معايير قياسية تجعله قادر على تلبية المطلوب منه. ومبادئ المعايير القياسية لكل منتج او نظام اصبحت من اهم المواد التي يتم تدريسها في الكليات المختلفة، وكذلك تشتغل بها العديد من مؤسسات البحث العلمي والمعاهد التقنية في العالم. ويعتبر تأسيس المنظمة الدولية للتقييس (او للمعايير القياسية) ISO في العام 1946 هو ثمرة العمل الدولي المشترك الخاص بوضع معايير قياسية لجودة المنتجات والخدمات وطرق التصنيع والفحص والاختبارات المختلفة. وقد تم انشاء تلك المنظمة كتلبية للمتطلبات الجديدة التي نتجت عن ازدياد حركة التجارة العالمية والحاجة الى الرجوع الى معايير واحدة مقبولة من الجميع فيما يخص مواصفات الجودة للبضائع والمنتجات المختلفة. وتمثل تلك المعايير القياسية مرجعية تجارية للدول والشركات، يتم الرجوع اليها في وضع البنود الفنية في التعاقدات والصفقات، وكذلك يتم الرجوع اليها في المنازعات التجارية.
تعتبر معايير سلامة الغذاء والسلامة المهنية وسلامة البيئة من مبادئ الجودة في مفهومها الشامل، لأنها تؤثر على جودة المنتجات والخدمات والأنظمة، وكذلك على العامل المُنتِج او مُقدِم الخدمة او البيئة المحيطة. فعلى سبيل المثال، نظام الإنتاج الذي يمتثل لمعايير الجودة سوف يُنتِج مُنتَج سليم وامن، ويمتد مفهوم السلامة الى العامل الذي يقوم على الإنتاج، لأن نظام الإنتاج الذي يضر بالعامل يعتبر غير ممتثل لمعايير الجودة، وكذلك نظم الإنتاج التي تضر بصحة المواطنين من خلال تلويث البيئة تعتبر فاقدة لصفة الجودة.
تعتبر المواصفات الصادرة من المنظمة الدولية للتقييس ISO هي اهم معايير الجودة في العالم، إلا ان العديد من المنظمات الدولية الأخرى تصدر أيضا مواصفات قياسية، مثل معيار OHSAS 18001 والصادر من المعهد البريطاني للتقييس ويختص بالسلامة والصحة المهنية وقد تم تبنيها عالميا، إلا انه من المخطط استبداله بالمواصفة القياسية الدولية ISO 45001 خلال العام الحالي. كما تختص مواصفات مثل ISO9001 بجودة النظم الإدارية، ومواصفة ISO14001 والخاصة بمعايير التعامل مع البيئة لتقليل الأثر السلبي للصناعة والتجارة والأنشطة البشرية على البيئة. وتُصدَر أيضا معايير لبعض أنواع التجارة والصناعة مثل المعايير الصادرة من رابطة تجارة الحبوب والاعلاف GAFTA و اتحاد روابط الزيوت والدهون والبذور FOSFA. هذا بالإضافة الى بعض القواعد الاسترشادية العامة الخاصة بجودة نظم الإنتاج المختلفة التي يتم تبنيها من قبل العديد من المنظمات مثل الممارسات التصنيعية الجيدة GMP والتي تبنتها منظمة الصحة العالمية ليتم تطبيقها في مجال صناعة الدواء، والممارسات الزراعية الجيدة GAP والتي تم تبنيها من خلال منظمة الأغذية والزراعة الدولية FAO ويتم تطبيقها كمعيار لجودة انتاج المزارع من خلال المنظمة الدولية GLOBALGAP
خلال العشرين سنة الماضية، زاد الاهتمام بشكل تدريجي في مصر بتطبيق معايير الجودة العالمية، وأصبح الحصول على شهادات الايزو 9001 و 14001 و 18001 من اهم اهداف إدارات الجودة بالشركات المختلفة. إلا ان صدور منظومة التصدير الجديدة للحاصلات الزراعية بالقرار الوزاري المشترك 670 من وزارتي الزراعة والتجارة يعتبر تتويج لمجهودات طويلة لضبط الجودة بالصادرات الزراعية المصرية. حيث تشترط المنظومة الجديدة حصول المزارع التي تنتج بعض أنواع الخضروات والفاكهة من اجل التصدير على شهادة GLOBALGAP وكذلك حصول محطات التعبئة على شهادة الجودة BRC، وذلك كان له اكبر الأثر في زيادة صادرات مصر العام التصديرى الماضي بنسبة 20% كما أدى الى تحسين سمعة المنتج المصرى وفتح أسواق جديدة امام المنتجات الزراعية المصرية. وتعتبر معايير سلامة المنتج الزراعي من اهم ما تضمنته تلك المنظومة الجديدة، حيث انها تقوم بضبط استخدام المبيدات والتأكد من عدم حمل المنتج الزراعي لأي من الملوثات البيولوجية او الكيمائية السامة.
إلى أى مدى يتم الاعتماد فى مصر على انظمة حديثة فى الضبط والتفتيش على الجودة فى مصر فى مجال الزراعة والامن الغذائى؟
تعتبر الأجهزة التي تقوم بضبط جودة المنتجات وسلامة الغذاء من اهم الأجهزة الرقابية في مصر والعالم، وتقوم العديد من الجهات الحكومية وشركات القطاع الخاص بدور كبير في ضبط جودة المنتجات والتفتيش على نظم الإنتاج المختلفة وتقديم الدعم الفني الاستشارات العلمية فيما يخص جودة وسلامة المنتجات الزراعية والغذائية. اهم تلك الأجهزة هي هيئة الرقابة على الصادرات والواردات ووزارة الزراعة ووزارة الصحة وكذلك المعامل الحكومية، بالإضافة الى الشركات العالمية والمحلية العاملة في مجال التفتيش والفحص والاختبارات في مصر وتقوم بمنح شهادات المطابقة لمعايير الجودة باستخدام أحدث الأنظمة وطبقا للقواعد الدولية
تمثل الأجهزة الحكومية الرقابية وشركات التفتيش والفحص في مصر بيوتا للخبرة بما تمتلكه من كوادر فنية وعلمية متخصصة لها خبرات متراكمة في مجال ضبط الجودة. إلا ان النمو الاقتصادي وخطط التنمية وزيادة الصادرات تستلزم الدفع بأعداد أكبر من متخصصي الجودة الى السوق المصري، بالإضافة الى وضع برامج مستمرة للتدريب للعاملين بقطاع ضبط الجودة والتفتيش والفحص على أحدث المعايير العالمية وذلك لأن مجال الجودة وسلامة الغذاء من المجالات الحيوية دائمة التغير والتطوير، وتوقف خبراء الجودة عن متابعة الجديد في ذلك المجال واكتفاءهم بالخبرات السابقة سوف يؤدى لخروجهم من السوق العالمي للضبط والتفتيش على معايير الجودة.
خلال العقود الاخيرة وبسبب ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي في العديد من دول العالم، ارتفع المستوى المعيشى للعديد من الشعوب، وأصبحت قادرة على دفع ثمن الجودة في المنتجات الغذائية بشكل خاص، مما وضع مسئولية على الأجهزة الرقابية في دول العالم المختلفة بتشديد إجراءات سلامة الغذاء وارتفاع متطلبات الجودة في المنتجات المستوردة. وفى المقابل، فإن مُنتِجى الغذاء سعوا لزيادة إجراءات ضبط الجودة والارتفاع بمستوى منتجاتهم رغبة منهم في زيادة قبول الأسواق العالمية لبضائعهم. وعلى المستوى المحلى، فإن المُنتِج المصري اصبح “مضطرا” لتلبيه الطلب المتزايد على سلامة الغذاء وجودته من خلال تطبيق معايير اعلى في الإنتاج والتداول. في البداية كان ينظر بشكل كبير على ان إجراءات الجودة وسلامة الغذاء هي مصروفات زائدة وقيود على المصدريين المصريين، إلا ان زيادة حجم الصادرات المصرية خلال الموسم الماضى وارتفاع قيمة الحاصلات الزراعية المصرية يدل على ان اى استثمار في مجال الجودة سوف يكون له مردود اقتصادى مباشر على المدى القريب في ارتفاع قيمة المنتج وزيادة الطلب عليه، وعلى المدى البعيد في بناء سمعة عالمية جيدة للمنتج المصرى وزيادة الاستثمارات في مجال الإنتاج الزراعى والغذائى.
لا تعتبر المواصفات القياسية عائقا امام الإنتاج والتصدير، بل انها اداه لضبط الأسواق وضمان تحقيق المُنتَج او الخدمة لمتطلبات المستهلك وحمايته من الغش والغذاء الغير امن. بالإضافة الى كونها اداه لتميز المستثمر صاحب الالتزام ناحية عملاءه من المستثمر الباحث عن الثراء السريع والسهل بغض النظر عن إضراره بمصالح عملاءه. إلا ان الالتزام بالمواصفات القياسية العالمية في الإنتاج الزراعي والغذائي يستلزم جهدا لبناء البنية التحتية السليمة لنظم الجودة في الإنتاج وهذا يعتبر من الاستثمارات بعيدة المدى التي يجب ان يتم التخطيط الجيد لها وتنفيذها من خلال نظم إدارية حديثه تعتمد على العلم والمعرفة وليس أدوات “الفهلوة” وثقافة اقتصاد “الفرشة”
منذ صدور القرار الجمهورى رقم 1 لسنة 2017 بشأن قانون الهيئة القومية لسلامة الغذاء ونحن نحلم بتفعيل دور تلك الهيئة التي طال انتظارها. دور الهيئة القومية لسلامة الغذاء لن يتوقف فقط على سلامة الغذاء المصدر او المستورد، بل سوف يقوم بالرقابة على الأسواق المحلية وحماية المستهلك المصري من الغذاء الغير امن والغير خاضع لأنظمة الرقابة الحالية، والتي يقتصر دورها فقط على رقابة الصادر والوارد من المنتجات الزراعية والغذائية.
يعتبر المستهلك هو المحرك الأول لصناعة الجودة، لأن ارضاءه يعتبر هو هدف اى مُنتِج او مقدم خدمة. لذلك فإن توعية المستهلك بضرورة اختياره للمنتج الجيد واستعداده لدفع ثمن الجودة يعتبر هو الخطوة الأولى والأهم في صناعة الجودة في أي مجتمع. واتصور ان جهاز حماية المستهلك وكذلك الجمعيات الاهلية ومنظمات المجتمع المدني التي تعتنى بحقوق المستهلك هي المنوط بها توعية المستهلك بضرورة التزامه بشراء واستخدام المنتجات ذات معايير الجودة والسلامة المقبولة.