الأخبارالانتاجالمياه

د خالد وصيف يكتب: متى تحلو حياة الفلاح ؟

 

خبير موارد مائية

فى عيد الفلاح ذهبت ابحث فى قناة اليوتيوب عن اسمهان، صاحبة الصوت الجميل والمساحة العريضة المتفردة فى تنوعها وثراءها، تسلل صوت موسيقى عبد الوهاب هادئة تمس الوجدان وينطلق الصوت النادر يشدو:

محلاها عيشة الفلاح متطمن قلبه مرتاح

هذه اغنية انطلقت عام 1939، الفترة الذهبية لليبرالية المصرية التى استفادت من ثمار ثورة 1919، شريحة ضيقة من الباشوات ملاك الاراضى الزراعية الشاسعة، ويعمل لديهم  كأجراء ملايين من الفلاحين المعدمين، تلتهم البلهارسيا اكبادهم، ويقضى الفقر والامية على البقية الباقية من اى امل فى تحسين حياتهم. كان السير بلا حذاء امرا مألوفا وشائعا للدرجة التى دفعت الملك فاروق للوعد بتوفير احذية تستر اقدام الفلاحين الفقراء. ربما لم تجد اسمهان شيئا تغبط عليه حياة الفلاح المصرى سوى ان قلبه مطمئن ومرتاح، بالرغم من فاقته وبؤسه، وربما شعر بيرم التونسى مؤلف الكلمات انه يجب ان يبحث عن سبب مقنع لتلك الراحة فلم يجد سوى ان الفلاح يتقلب على الارض الواسعة فى جلبابه الازرق، لكنه اختار مرادفا آخر يحمل اكثر من معنى ويمكنه ان يعبر عن انسان أو حيوان، فأكمل كلماته:

يتمرغ يتمرغ على ارض براح والخيمة الزرقا ستراه

تمر الايام وتأتى يوليو 1952 لتلتفت لتلك الشريحة البائسة تحاول ان تضع اصلاحات اجتماعية واقتصادية ترفع من شانها من خلال اصدار قوانين الاصلاح الزراعى التى وضعت سقفا للملكية الزراعية ب200 فدان. تم نزع ملكية ما يقرب من نصف مليون فدان في ظل قانون الإصلاح الزراعي، أي ما يقرب من 8.4% من إجمالي المساحة المنزرعة في مصر في ذلك الوقت، وتم توزيع هذه الأراضي وفقًا لنظام معين من الأولويات، بحيث أعطيت الأولوية عند التوزيع “لمن كان يزرع الأرض فعلًا مستأجرًا أو مزارعًا، ثم لمن هو أكبر عائلة من أهل القرية، ثم لمن هو أقل مالًا منهم، ثم لغير أهل القرية. فى اوائل السبعينيات اكتشفنا أن قوانين الإصلاح الزراعي لم تحل مشكلة المعدمين الزراعيين، الذين بلغت نسبتهم قبل الثورة نحو 44 بالمائة، وفي عام 1965 انخفضت إلى 40 بالمائة، ثم ارتفعت عام 1972 إلى 45 بالمائة، كان منح الفلاح قطعة ارض صغيرة مثل منح سمكة لفقير بدلا من تعليمه مهارة الصيد. واستفادت البيروقراطية الجديدة التى قامت على اكتاف ثورة يوليو من قوانين الاصلاح الزراعى اكثر من الفلاح نفسه، من خلال ادارة ضعيفة الكفاءة لا تخلو من شبهات الفساد بجمعيات الاصلاح المنتشرة فى انحاء الجمهورية. وتنتقل اسمهان لكوبليه جديد فى شدوها الملائكى:

دي القعدة وياّ الخلان والقلب مزقطط فرحان

تثاقلها بجنة رضوان يا هناه اللى الخل معاه

انفضت القعدة وغاب الخلان فى فترة تجنيد طويلة من عام 1965 الى عام 1973، ترك الفلاحون الفئوس وحملوا البنادق. قامت حرب اكتوبر 1973 التى كان الفلاحون المجندون هم ابطالها الحقيقىون من جنود المشاة الذين انطلقوا بالقوارب المطاطة تحت قصف النيران ليعبروا قناة السويس. ويرفع الفلاح محمد السنى، ابن قرية القرين العلم المصرى فوق حطام خط بارليف، وتنتهى الحرب وتبدأ مرحلة الانفتاح ليواجه الفلاح مأزقا جديدا، لم تعد الزراعة حرفة مربحة بالمقارنة بالتجارة والسمسرة والسفر للخارج، ارتحل مليون فلاح مصرى الى العراق والسعودية وليبيا تاركين الارض الزراعية ورائهم، مفضلين السفر على القعدة ويا الخلان. وتهب رياح شؤم على العراق بدءا من عام 1990، ليعود الفلاحون الى بلادهم خالى الوفاض الا من كوبون اصفر اللون يفيد بمستحقاتهم لدى البنك المركزى العراقى، والتى تم نهبها ضمن منهوبات العراق على يد مستعمريه الجدد. وكأن اسمهان تواسى فلاحنا العزيز على مأساته فتشدو له:

دي الشكوى عمره ما قالهاش ان لاقى والا ما لاقاش

والدنيا بقرشين ما تسواش طول ما هو اللى حبه حداه

الفلاح لايعتاد الشكوى، كما تقول اسمهان، فهو كما يقول المثل الدارج، اول الموافقين وآخر المعارضين، لكنه تحت تأثير ضغوط شديدة ومتنوعة كان لابد له من يوفربه الحد الادنى من متطلباته، حتى ولو لم يجرؤ على الشكوى للسلطات التى بينه وبينها ميراث قديم من عدم الثقة والارتياب المتبادل.

ارتفعت الاعمدة الخرسانة مكان عيدان القطن والذرة، وتحولت جريمة التعدى على الارض الزراعية الى فعل اعتيادى يجرى فى ظلام الليل وايام العطلات والاعياد، خمسة افدنة تفقدها مصر كل ساعة زمن بسبب التباين الشديد فى العائد الاقتصادى لارض الزراعة وارض البناء. وامتدت حالة التعدى لتنتقل بالعدوى على جسور النيل الذى كان موطن تقديس وعبادة المصريين من خلال الاله حابى.

تحررت اسعار الاسمدة الزراعية وتحررت اسعار الوقود وتحررت اسعار الكهرباء، تحرر كل شيئ الا قدرة الفلاح على التصرف وتحسين دخله، فالفلاح لا يستطيع تسويق محصوله بنفسه لعدم درايته بظروف السوق، فضلاً عن افتقار معظم الفلاحين للإمكانيات التخزينية أو التصنيعية، كالفرز والتدريج والتلوين والإنضاج. والفلاح يفتقد ارشاد زراعى يقوده الى الاهتمام بمحاصيل تعطى عائد نقدى مجزى، بدلا من المحاصيل التقليدية مثل الارز والذرة والقمح، والتى اعتاد زراعتها بنفس الطريقة منذ آلآف السنين. والفلاح يقع فريسة للتاجر والمسوق فى سلسلة استغلال طويلة يقف هو فى نهايتها. وتتألق اسمهان فى الكوبليه الاخير من اغنيتها وهى تحذر الفلاحين من ترك الريف:

يا ريف اعيانك جهلوك وعزالهم شالوه وهجروك

لمداين مزروعة شوك ياما بكرا يقولوا يا ندماه

ترك الفلاح الارض وذهب يقود توكتوك فى شوارع القرية يحصل منه على مائة جنيه يوميا، صافى دخل لن يأتيه بزراعة خمسة افدنة زراعية، وترك القرية ليعمل حارسا للعقارات فى المدن الجديدة، اكتوبر والشيخ زايد والشروق والرحاب، ترك الارض الزراعية وهجر قريته وهو يأسف لاسمهان التى كانت تؤكد بقاءه فى قريته مهما لاقى من عنت. وتتوفى اسمهان فى ريعان شبابها عام 1949 فى حادث غامض، سيارتها تغرق فى ترعة اثناء توجهها الى مدينة رأس البر، لم ينجح الفلاحون الذين هرولوا من حقولهم لموقع الحادث فى انقاذها، لكن سائق السيارة استطاع النجاة بنفسه تاركا السيارة وداخلها صاحبة احلى صوت فى حينه لمصيرها، تفقد اسمهان حياتها ونفتقد نحن صوتها الملائكى حتى الان.

ومازال الفلاح المصرى فى انتظار ايامه الاحلى التى لم يعشها حتى الآن، ينتظر تلك الايام وهو يستمتع بصوت اسمهان وهى تداعب احلامه، محلاها عيشة الفلاح

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى