تلقت “أجري توداي”، ردا من الدكتور محمد فهيم وكيل معمل المناخ، التابع لمركز البحوث الزراعية، متضمنا عددا من علامات الإستفهام حول دور الدولة في زيادة الوعي بمخاطر سوء إستخدام المبيدات، وآليات حل هذه الإشكالية وإلي تفاصيل الرد:
نشرت مجلة «رِسك آنالستس» فى العدد 26، بحثاً للبروفيسور أولرومينيه إيبتايو، من جامعة تكساس الجنوبية، بعنوان: «المزارعون المصريون، سلوكيات وعادات استخدام المبيدات الزراعية: الآثار الخطيرة المترتبة على التعرض للمبيدات»، ذكر فيه أنه لا يوجد قدر كافى لتوعية الفلاحين، وأن نقص الوعى بين المزارعين بخطورة التعرض لتلك النوعيات الخطيرة من المركبات الكيميائية السامة تتسبب فى إصابتهم بالأمراض.
وقبل ذلك كانت مجلة علم السموم «توكسيكولوجى» قد عرضت صورة عامة للحالة فى مصر فى دراسة نشرتها فى عددها رقم 198، تحت عنوان: «التعرض للمبيدات.. المشهد المصرى» وكان من بين قائمة الأمراض التى تصيب الفلاحين بحسب الدراسة نتيجة تعرضهم المباشر دون اتخاذ الإجراءات الوقائية الكافية «الإصابة الحادة والمستمرة للجهاز العصبى، وتلف الرئة، وإصابة الجهاز التناسلى، وخلل فى المناعة والغدد الصماء، وظهور العيوب الخلقية، والأورام السرطانية».
عودة إلي الوراء، أو كما يقول البعض فلاش باك، ففى أواخر الأربعينات من القرن الماضى، استقبلت الموانئ المصرية أولى شحنات المبيدات الزراعية، لمكافحة آفات القطن. خلال تلك الفترة كانت المركبات الكيميائية الجديدة قد استقرت لحاجة الدول لها فى تعظيم الإنتاج الزراعى عن طريق مكافحة الآفات التى تصيب المحاصيل…
لاحقاً مُنيت مصر بزيادة ملحوظة فى نسب الإصابة بالأمراض السرطانية والرئوية والتناسلية التى تشير دراسات طبية إلى علاقة المبيدات بكثير منها. والسبب سواء الإستخدام.
والأرقام الدولية تؤكد أن 25٪ من المبيدات المنتجة عالمياً تستخدمها الدول النامية، ومنها مصر، بينما تستخدم الدول المتقدمة 75٪ من المبيدات، ورغم ذلك فإن 90٪ من حالات التسمم من المبيدات تقع في الدول النامية، بينما لا يتعدي 10٪ فقط من حالات التسمم بسبب المبيدات في الدول المتقدمة.
واعتاد المزارعون على استخدام الكثير من أنواع المبيدات للتخلص من الآفات التى تصيب زراعاتهم، او الاستعانة “بصاحب الرشاشة” أو الماتور دلوقتي وهو ذاك الشخص ذو الأسلوب المتساهل مع المبيدات، والاكثر جرأة فى التعامل معها … ورغم خطورة ذلك، فإن «صاحب الرشاشة» ظل يرش المبيدات دون الالتفات للمحاذير لانه لا “يعلم” او اعتاد ان يتعامل معها دون إن يذهب الى مركز “السموم” مغشياً عليه.
ونعود “لصاحب الرشاشة” صديق المبيدات … وبساقين وذراعين عاريتين ورأس ووجه وصدر مكشوف، جهّز «أخينا» رشاشة المبيدات التى عاونه “أبنه” على حملها على كتفه، قبل أن يغوص بقدميه فى المياه التى تغمر التربة. موسم زراعى صعب، أصيبت فيه زرعتة بنسبة كبيرة من “منغصات” عيشته الذبابة بيضاء اللون سوداء الفعل والقلب.
بعد نحو ساعة من التحضير والرش، شعر «أخينا» بصعوبة فى التنفس «كرشة نفس»، واختناق فى الحلق، لكنه تحامل ولم يسقط. «كتير فى البلد عندنا فلاحين بيقعوا بعد ما بيرشوا لأن المبيدات دى سم، ومفيش أى حاجة تحمينا منه».
فلا توافر للملابس الواقية الواجب ارتداؤها أثناء رش المبيدات الزراعية «الأفرول والقفازات والكمامات ونظارات حماية العينين»، تخيلو ان زمان الجمعية الزراعية كانت بتوفر للمزارعين نضارات وكمامات لكنها بطلت تصرف الحاجات دى دلوقتى زي ما بطلت حاجات “كتير”».
وصاحب الرشاشة عنده “سوابق” مع المبيدات، فهو يتهم أنواع المبيدات المختلفة التى يستخدمها فى التسبب فى وفاة والده وشقيقه بمرض كبدى، وإصابة شقيقته وأمه بنفس المرض «أخويا وأبويا جالهم فشل كبدى، وماتوا وأمى وأختى جالهم فيروس سى لأنهم دايما معاياً فى الأرض ومحدش فينا بيلبس أى كمامة». ويشير «صاحبنا»، وقد خرج متعرقاً بعد جولة الرش، إلى إحدى عبوات المبيدات التى تتوافر فى السوق تحت أسماء تجارية كثيرة: «دوا تانى للرز، بيقتل الحشايش، بينزل فى 3 عبوات ماتعرفش أنهى فيهم الأصلى وأنهى المضروب»،
ويقول “صاحبنا”: «بنزل أرش فى الأرض على حالتى كدة، زى مانا، عندما كان رمضان فى سن ابنه الأكبر، اعتاد على زيارة المشرف الزراعى الحكومى، «المشرف زمان كان بينصح أبويا وينصحنى، إنما المشرف دلوقتى عدو للمزارع، زمان كان هو اللى بيجيب لى الدوا بنفسه، يعنى من 15 أو 20 سنة مكانتش تلاقى محلات بتبيع مبيدات زى دلوقتى، المبيد لازم تشتريه من الجمعية الزراعية فى القرية اللى أنت تابع ليها، والمشرف كان بيفضل واقف قدامك لحد ما تخلص الرش. دلوقتى ماعدش الكلام ده».
وفى الوقت الذى يرش فيه «صاحب الرشاشة» المبيدات فإن والدته وأخته غالباً ما تجلسان بالقرب منه وفى مهب الهواء الذى يحمل إليهم رذاذ المبيد، بينما تقومان بقطف أعواد الملوخية، أو ثمار الباذنجان.
ويضطر «صاحبنا» للاستعانة بأبنائه، حتى فى تلك الأوقات التى يقوم فيها برش محصوله، «محمود ابنى فى 6 ابتدائى، بيساعدنى فى كل حاجة لها علاقة بالفلاحة، وطبعاً منها رش المبيدات». بعد الانتهاء من الرش، تكون كمية لا بأس بها من الرذاذ قد وجدت طريقها إلى رئتى «صاحبنا»، الأمر الذى يتسبب فى إحساسه بالاختناق الشديد، والقىء المستمر فى نهاية وأثناء الرش،
والغريب ان صاحب الرشاشة يعرف ان: «رش المبيدات له تعليمات كتير لازم الفلاح يلتزم بيها، منها وقت الرش اللى المفروض يكون بين الساعة 7 صباحاً ولحد وقت الضهر، أو من العصر لحد المغرب، لكن الفلاح بيرش الضهر فى عز الحر. ومفيش مراقبة، من 2005 مجاتش على البلد لجنة متابعة لا من وزارة الصحة ولا مديرية الزراعة ». وعدم اهتمام الفلاحين بشراء مواد بسيطة للوقاية من المواد الكيميائية التى يعالجون بها أمراض النباتات، إلى أحوالهم المادية الصعبة، «الفلاح أغلب من الغلب لأنه مفيش حيلته فلوس يجيب كمامات ونضارات وغيرها من مستلزمات الوقاية، فبيضطر يرش بدون ما يلبس أى حاجة تحميه، علشان كدة بتحصل حالات كتير بين الفلاحين تسمم». ويلجأ فلاحون كثيرون أثناء الرش، منها أن يخلع الفلاح قطعة من ثيابه ويلفها حول وجهه لصد رذاذ المبيد المتطاير من الوصول لأنفه. فيواصل صاحبنا قائلاً: «ساعات بشيل شال وألفه حوالين وشى.. بس ولا بيعمل حاجة».
وفي النهاية …
الأرض الزراعية.. تتوجع… والفلاح صحته باتت معتلة.. ومخرجاتها «صنعة أيد الفلاح»، من نباتات، ومحاصيل زراعية تغير لونها، وطعمها، حتي رائحتها الطبيعية هجرتها إلي غير رجعة.
والسبب المبيدات الزراعية «قوة القتل الثلاثية» او سلاح القتل البطىء للأرض والإنسان، فصحة الإنسان لم تسلم من هذا السلاح، وأصابها هي الأخري المرض من تداعيات رش الأرض الزراعية بالمبيدات السامة.
المقالات تعبر عن رأي صاحبها فقط