الأخباربحوث ومنظماتحوارات و مقالات

د أحمد حسين يكتب: الممارسات الزراعية الجيدة و”أعمدة الحكمة الاربع”

خبير صحة نباتية ومدير فني لقطاع الاغذية والزراعة بشركة SGS

خاض الانسان منذ استقراره واكتشافه للزراعة صراعا مريرا مع الطبيعة لتوفير احتياجاته الأساسية في الحياة من غذاء وكساء وملجأ. كان تارة يحقق انتصارا ويعيش حياة رغدة ومنعمة، وتارة تسحقه الطبيعة بالفيضانات والسيول والامراض وتقضى على زرعه وتتركه جائعا مريضا، إلا ان الانسان ظل دائما يتعلم ويتطور ويتقدم في الإنتاج الزراعي ويطوع قوى الطبيعة لتحقيق نجاحه ورفاهيته. حتى ظن الانسان انه وصل الى ذروه نجاحه الزراعي مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين فيما عرف باسم “الثورة الخضراء” .

استطاع الانسان خلال هذه الفترة ان يضاعف انتاجه الزراعي والحيواني وأصبحت أحلامه في توفير الامن الغذائي اقرب الى التحقيق، بفضل استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة واستنباط الأصناف عالية الإنتاجية والاسمدة الكيماوية والري الحديث بالإضافة الى السيطرة على انتشار الآفات من خلال تصنيع العديد من المبيدات، والتي كان أهمها على الاطلاق مبيد الـ”دى دى تى” الذى تم اكتشاف اثره في مكافحة الآفات على يد العالم السويسري “مولر” في العام 1939 وحصل على جائزة نوبل في العام 1948 في مجال الطب وذلك للدور الذى لعبه الـ “دى دى تى” في القضاء على النواقل الحشرية لأمراض الملاريا والتيفويد خلال الحرب العالمية الثانية.

ورغم ذلك إلا ان الطبيعة أوسع حيلة واشد مكرا وخلال الستينيات تواترت الاخبار والتقارير عن ضعف فاعلية المبيد “السحري” الـ “دى دى تى” وانتشار مجموعات من الآفات التي لا يؤثر بها المبيد. ترافق ذلك مع الحركات البيئية الجديدة التي أدركت ان الصدام مع البيئة لن يكون في صالح الانسان، وانه يلزم عقد اتفاقية مصالحة مع البيئة ليستمتع الانسان بمزاياها ولكن بدون ان يضرها او يدمرها.

وقد كان لكتاب الناشطة البيئية راشيل كارسون المسمى “الربيع الصامت” والصادر عام 1962 أثر كبير لتوجيه انتباه الحضارة الإنسانية الى خطورة الافراط في استخدام المبيدات، خاصة المبيدات ذات مدد البقاء الطويلة مثل الـ “دى دى تى” والتي لا تتحلل بسهولة في التربة وقد تبقى لعشرات الأعوام تمارس أثرها الضار على العديد من الكائنات الحية، ومنها الحشرات الأخرى التي تمثل جزء هام من السلسلة الغذائية للحيوانات البرية. وتنبأت الكاتبة انه إذا استمر الانسان في نشر السموم الكيماوية في البيئة المحيطة به فسوف يختل ميزان الطبيعة وتنقرض العديد من الاجناس الحية ويأتي يوما لا تزهر فيه الأشجار في الربيع بسبب موت الملقحات الحشرية وتموت الطيور بسبب اعتمادها في الغذاء على الحشرات، ويبدأ التفاعل المتسلسل المدمر من انهيار المنظومة الحيوية على الكرة الأرضية.

أدت الحركة البيئية الى منع استخدام الـ “دى دى تى” في الولايات المتحدة الامريكية في العام 1972 لخطورته على البيئة وكذلك صحة الانسان، والتي اثبتت الدراسات ان مثل تلك المبيدات لها القدرة على التراكم داخل دهون جسم الانسان لعشرات الأعوام، وقد يصبح لها أثر مرضى مسببة للسرطانات المختلفة وامراض الحساسية وضعف الجهاز المناعي.

استجاب الانسان للتحدي الجديد، وبدأ في وضع مبادئ واساسيات ما يسمى بالإدارة المتكاملة للآفات، وأصدر الرئيس الأمريكي نيكسون في العام 1972 اول تشريع في العالم يشجع على تطبيق الإدارة المتكاملة للآفات بدلا من الاعتماد الدائم والكلى على المبيدات. وتقوم مبادئ الإدارة المتكاملة للآفات على الاعتناء بالإجراءات الوقائية وتشجيع اليات الطبيعة للسيطرة على اعداد الآفات من خلال تشجيع الأعداء الحيوية، وعدم اللجوء الى استخدام المبيدات الا في حالة الضرورة القصوى وفقط إذا زادت اعداد الآفات عن الحد الاقتصادي الحرج الذي يبرر تكاليف استخدام المبيد في مواجهة الخسائر المحتملة للأفة، واعتبار ان تواجد الآفات على المحاصيل هو امر طبيعي لا يجب الخوف منه ولن يكون له تأثير اقتصادي إذا ظلت اعداد الافة تحت السيطرة بالآليات الطبيعية وبأدنى تدخل من الانسان.

وامتدت مبادئ الإدارة المتكاملة من إدارة الآفات الى الإدارة المتكاملة للإنتاج الزراعي، والتي تعتمد على نفس الأسس من تقليل تدخل الانسان في حركة الطبيعة والاعتماد على الاليات الطبيعية في الإنتاج الزراعي، وظهرت مفاهيم مثل الاسمدة بطيئة التحلل، والاسمدة الحيوية، والحفاظ على التنوع الحيوي للأصناف المختلفة واتباع الدورة الزراعية وتحميل محاصيل مختلفة في نفس الحقل، وتقليل العمليات الزراعية من حرث وتقليب للتربة للحفاظ على محتواها من الكائنات الحية، والاعتماد على احتساب مقننات الري والتسميد الكيماوي بناءا على نوع التربة وخواصها ونتيجة التحاليل المختبرية بدلا من استخدام برامج ثابته للري والتسميد. وانتشرت نفس المبادئ في مجال الانتاج الحيواني والداجني والسمكي واضيفت اليه مبادئ الرفق بالحيوان واحترام الروح التي خلقها الله وسخرها لخدمتنا في الخير.

وبرزت الحاجة لتنظيم النشاط الزراعي بشكل عام في مجموعة من المبادئ الحديثة التي تراعى ثلاث احتياجات غذائية اساسية: الامن الغذائي بتوفير ما يكفي من الغذاء، وسلامة الغذاء بتوفير غذاء امن لا يسبب مشاكل صحية، وجودة الغذاء بحيث يحتوى على العناصر الغذائية الضرورية للإنسان، مع مراعاة البعد البيئي والاجتماعي والإنساني في النشاط الزراعي. وقد اخذت المنظمات الدولية – وفى مقدمتها منظمة الزراعة والأغذية للأمم المتحدة “الفاو” – على عاتقها نشر تلك المبادئ والممارسات فيما يسمى “الممارسات الزراعية الجيدة” او الـ”جاب” وهو ما يعرف باللغة الإنجليزية تحت مسمى “Good Agricultural Practices” او الـ “GAP”. وبنيت تلك المبادئ الحديثة على أربع أعمدة أساسية وهي: سلامة الغذاء، البيئة، صحة ورعاية الحيوان، والمسؤولية الاجتماعية.

يقوم مبدأ سلامة الغذاء على منع وصول الملوثات المختلفة: الفيزيائية مثل الاخشاب والمواد المعدنية، والكيميائية مثل المبيدات والسموم الفطرية في المحاصيل والمضادات الحيوية والهرمونات في اللحوم، والملوثات الحيوية من الميكروبات المضرة للإنسان مثل البكتيريا القولونية والسالمونيلا. وكذلك مراعاة البعد البيئي من خلال تقليل الأثر السلبي على البيئة الناتج من النشاط الزراعي، والاعتناء بالتنوع البيولوجي وحماية الحياة البرية واتباع نظم مستدامة وصديقة للبيئة في الاستفادة من المصادر الطبيعية المختلفة مثل التربة ومصادر المياه.

كما تم وضع أسس لحماية صحة الحيوانات وعدم استغلال تلك الأرواح الحية بشكل يؤذيها ويعذبها واحترام سر الحياة بها وهي نفس المبادئ التي دعانا الإسلام الى تطبيقيها حينما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح” وقال: “اتَّقُوا اللَّه في هذِهِ البهَائمِ المُعْجمةِ فَارْكبُوها صَالِحَةً، وكُلُوها صالحَة”. كما افردت مبادئ الممارسات الزراعية الجيدة صفحات هامة خاصة بالمسؤولية الاجتماعية تجاه العاملين بالمجال الزراعي وتوفير حياه امنة وكريمة لهم وحمايتهم من الأثر السلبي لتعرضهم لمختلف الملوثات اثناء عملهم، واعطائهم الحق في التعبير عن أنفسهم ومناقشة احوالهم واحتياجاتهم وتمثيلهم في مجالس الإدارات في الشركات الزراعية.

ويظل الانسان سيد بيئته وخليفة الله على الأرض طالما شعر بمسؤوليته تجاه تلك الرعية من حيوانات وانهار وارض وجبال ونباتات، فإن راعى فيها حقوق الله وحافظ عليها ، سخرها الله لرفاهيته ونجاحه ، أما اذا ظلمها واهملها، ثارت ضده وانقلبت عليه واحالت عرشه الى مقبرة لأحلامه وحضارته.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى