د خالد وصيف يكتب:شخصيات فى الميكانيكا والكهرباء
خبير موارد مائية
(ز.س) سيدة فى منتصف الخمسينيات. لاتحتاج ان تأتى لمصلحة الميكانيكا والكهرباء التابعة لوزارة الموارد المائية والرى لتلتقى بها. هى تشبه كثيرات يمكن ان تقابلهن جالسات فى عربة بمترو الانفاق يقرأن فى المصحف، او يتجولن فى السويقة القريبة من المنزل يشترين الخضار ويسألن عن اسعار اللحوم والاسماك. هى نموذج طبيعى للمرأة المصرية ابنة الشريحة المتوسطة التى تعيش كفاحا حقيقيا لتدبير شؤون حياتها. وتحتفظ بابتسامتها والامل يحدوها نحو غد افضل لاولادها قبل نفسها.
تعرضت (ز.س) فى وقت مبكر من حياتها لأزمات صحية متعددة، استدعت اجرائها ثمانية عمليات جراحية خلال فترة 15 عام، بمعدل عملية كل سنتين. استقرت بها الامور حتى عام 2014 حيث واجهت ازمة صحية ظنتها تشابه الازمات السابقة التى مرت بها وتعودت عليها. نصحها البعض باجراء تحليل. اكتشفت اصابتها بمرض قاس تسلل الى خلاياها فى خبث. خيرها الطبيب بين أمرين: استئصال نهائى مؤلم ومشوه لكنه يرفع نسبة عدم تجدد المرض، او علاج كيماوى طويل يحافظ على الاعضاء لكنه غير مضمون النتائج.
لم تستغرق (ز.س) وقتا طويلا فى التفكير، واختارت الاستئصال بشجاعة وأيدها زوجها واولادها الثلاثة. ولان العملية كان يجب ان تتم فى اقرب وقت، كان تدبير التكاليف هو القرار الثانى من حيث الصعوبة، خصوصا وان الزوج كان قد وضع كل سيولته فى شقتين اشتراهما بالتقسيط لاولاده. رفضت (ز.س) ان يتصرف الزوج فى شقتى الاولاد، ورفضت الاقتراض من الاقارب، قررت بيع مصاغها وبعض ميراثها المنقول لتدبير النفقات ودخلت غرفة العمليات بعد يومين فقط من تشخيص الطبيب.
مضت ساعات الجراحة الخمس وفتحت (ز.س) عينيها لتجد صورة ضبابية لاشخاص متحلقين حول السرير. تبينت ملامح اولادها الثلاثة ووالدها ووالدتها واشقائها الاربعة، واحست بيد دافئة تمسك بيدها وكلمات بسيطة من زوجها: حمد لله على سلامتك، ستظلى فوق رأس وفى قلبى طول عمرك..كانت تلك الكلمات هى بداية بروتوكول العلاج الطويل الذى التزمت به (ز.س) طوال خمس سنوات
اول صدمة تلقتها (ز.س) بعد العملية حينما سقطت حلة الطعام من يديها على بلاط المطبخ. كانت اول مرة تلمس الآثار الجانبية للجراحة. ضعفت عضلات الكتف ولم تعد تستطيع استخدام يديها بنفس القوة. توقفت عن حياكة الملابس بنفسها وباعت الماكينة واتجهت لشراء الجاهز. أصبح زوجها يحمل لها ملابس الغسيل الى الشرفة وتقوم هى بالنشرعلى الحبال. تعد الطعام وتطهيه ويقوم الاولاد بحمل الحلل والاطباق الى المائدة.. تكيفت مع ظروفها الجديدة كلها وتقبلتها لكن اكثر ما يؤلمها أنها لم تعد قادرة على رفع حفيدتها (نوران) فى الهواء ثم التقاطها واحتضانها كما كانت تفعل قبل العملية.
بعد فترة النقاهة، رفضت (ز.س) نصحية زوجها واولادها بتسوية المعاش، وأيدها الطبيب الذى نصحها بشغل وقتها بالعمل لان الفراغ يشجع الخلايا الخبيثة على العودة. الزمت نفسها ببرنامج يشغل يومها كله. تغادر المنزل فى السابعة صباحا بعد ان تعد وجبة الافطار للزوج والاولاد. تركب ميكروباص (او توكتوك) حتى تصل لمحطة الجامعة، تستقل مترو المنيب. تهبط فى محطة المظلات القريبة من عملها. تسير على قدميها من المحطة الى مكتبها بمصلحة الميكانيكا والكهرباء. وفى الطريق تشترى سندويتشات من محل فلافل اعتادت عليه. تملاء صدرها من هواء الصباح المنعش. تتبادل تحية الصباح مع كل من تلتقيهم حتى تصل مكتبها بالطابق الارضى. ادرجت اسمها فى كشوف النوبتشيات لتمضى ساعات اضافية حتى الخامسة مساءا، وحرصت على الذهاب للمكتب يوم السبت. قررت ايضا ان تنمى مهاراتها فى مجال الكمبيوتر الذى لم تلحق به فى شبابها. التحقت بدورة حاسب آلى وجلست وسط شباب وشابات من سن اولادها، كانت فخورة بحصولها على المركز الثانى فى الامتحان وتسلمها شهادة تقدير موقعة من رئيس المصلحة
بدأت (ز.س) تطبيق بروتوكول العلاج الوقائى كما اوصى الطبيب: نظام غذائى خاص واقراص يومية وحقن شهرية وتحاليل كل ثلاثة شهور واشعات متابعة كل ستة شهور. البروتوكول يتكلف مبالغ طائلة استطاعت تدبيرها بمساعدة زوجها ومن مقابل ساعات العمل التى تمضيها بعد المواعيد الرسمية، ومن لاجر الاضافى عن عمل ايام السبت، بالاضافة الى مبلغ بسيط وفره لها التأمين الصحى. فقد رفضت كل طرق المساعدة التى حاول زملائها تقديمها لها.
بعد خمس سنوات من تلقى العلاج وبعد اجراء تسع عمليات جراحية لاسباب مختلفة، لم تفقد (ز.س) قدرتها على الابتسام ولا احساسها بالرضا ولا قدرتها على العطاء. هى فخورة بنجاحها فى تربية اولادها، اثنان تخرجا من كلية الهندسة، الاول يعمل فى شركة مرموقة وتزوج وانجب، والثانى فى مرحلة البحث عن عمل والثالث طالب فى الفرقة الثانية بهندسة القاهرة، وهى فخورة بزوجها المهندس الذى غمرها بحبه وحنانه ووقف بجواره خلال سنوات المحنة. وهى سعيدة بقرب انتهاء بروتوكول العلاج الذى لم يتبق فيه الا عام واحد وشهرين
– ماذا ستفعلى لو عاودتك الاورام مرة اخرى بعد هذا الطريق الطويل؟. نظرت لى فى تحدى وقالت: سأستأصلها مرة أخرى وابدأ بروتوكول علاج تانى لخمس سنوات قادمة. ولن يتسلل اليأس الى نفسى ابدا.