محمد بلال يكتب:”فينسينت” …مصري ورواندي في الصين
باحث مساعد مركز بحوث الصحراء
بعد رحلة سفر من مطار القاهرة إلي مطار بكين استغرقت نحو التسع ساعات ثم ساعتين بالتاكسي وصولاً إلي مدينة خوايرو شمال شرق العاصمة الصينية وبعد إجراءات وصول سريعة عرفت خلالها أنني مضطر للقبول بوجود زميل في نفس الغرفة لفترة ولأسباب صيانه خاصة بالجامعة .. وصلت إلي غرفتي لأجد هناك شاب أسمر رفيع هادئ ينظر إلىَّ بحذر..
أري في عيونه تساؤلات عن ماهية هذا الشاب القمحاوي ذو الملامح الهندية الحمراء .. ماذا ستكون شكل علاقتنا وكيف سنعيش سوياً في غرفة واحدة لمدة نصف عام دراسي ..
كنت ساعتها في غاية التعب تبادلنا التحية سريعاً لأسأله عن اسمه وعن بلده: هاي واتس يور نيم.. وير آر يو فروم؟ وأقدم له نفسي : ماي نيم إز محمد أيام فروم إيجيبت..
كانت لغتي الإنجليزية بسيطة ومخارجها مصرية بحته ليبتسم الشاب الإفريقي الذي عرفت أنه من دولة رواندا واسمه: فينسينت.. لم أكن أعرف أن فينسينت لن يكون مجرد رفيق الغرفة فقط بل سيكون بطلاً ونموذجاً أستمد منه خبرة طويلة وقصة عظيمة وأستلهم منه ما لم يكن ممكناً أن أتعلمه بمفردي.
الحكاية ليست مجرد رفيق سكن بل قصة شاب قادم من فيافي أفريقيا مرة أخري لدراسة الدكتوراة بعد إنهاء الماجستير في الصين في وقت سابق.. قصة كفاح ومثابرة وإصرار علي التعلم .. شاب يسافر ويترك زوجته وإبنه الصغير ليحقق هدفه ويرفع من شأن بلده..
حلمه الأول أن يشارك في إطلاق منظومة الفضاء والإستشعار عن بعد في بلده.. رواندا بلد ناشئ صغير كادت أن تفتك به الصراعات والحروب الأهلية إلي أن استطاع العقلاء فيه في السنوات الأولي من الألفية الحالية ترك السلاح والتصالح ووضع خطة تنمية أسموها خطة رؤية ٢٠٢٠ ليتعاون الشعب كله في إنجاح الخطة ولتحصل “كيجالي” علي لقب أجمل عاصمة أفريقية بعد أقل من ١٠ سنوات ولعدة سنوات ظلت متربعه علي عرش المدن الأكثر جمالاً في أفريقيا.. ولتحقق رواندا الهدف وتصبح أفضل إقتصاد ناشئ والأعلي معدل نمو بلغ ٨% بحلول عام ٢٠١٨ وتحقق المرتبة الأولي أفريقياً في جودة التعليم والمرتبة ٤٤ عالمياً لنفس العام..
كل يوم سبت من كل أسبوع يخرج الشعب الرواندي كخلية نحل لينظف الشوارع ومحيط المنازل ويشاركهم الرئيس الرواندي وزوجته هذه العادة.. القصة أكبر من مجرد أرقام متغيرة ونسب تقريبية.. لقد رأيت قصة تطور رواندا بعيني وعايشتها بشكل يومي مع ذلك الشاب الأسمر الجميل.. فينسينت. لم أقابل في حياتي شاب حريص علي التعلم والإطلاع أفضل من فينسينت..
هناك شئ مختلف تأسس عليه هذا الشاب وغيره من شباب رواندا الموجودين معنا .. كيف أنه يجلس لساعات طويلة ساكناً لا يتحرك، فقط ينظر إلي شاشة اللاب توب الخاص به ليطالع الأبحاث العلمية.. يقرأ ويقرأ ويقرأ ولا يمل ولا يتعب.. فقط أربعة أشياء لم أجده يفعل غيرها، يقرأ الأبحاث أو يشاهد بعض المقاطع لتعليم برامج الإستشعار عن بُعد أو يشاهد أفلام عالم الحيوان في الغابات والبّرية! او أنه يذهب إلي الكنيسه يوم الأحد من كل أسبوع فهو شاب مسيحي متدين للغايه…
فقط هذا مايفعله فينسينت طوال الأسبوع.. فقط التعلم والتعلم والتعلم حتي أنك لا تكاد تلاحظه عندما يذهب ليتناول وجبات الطعام لأنه في الحقيقة لم أجد له أولوية في حياة فينسينت..
ففي الوقت الذي قد أشتري بعض البسكويت والمقرمشات والتسالي “لزوم المذاكرة” وقد أعطيه قليل من “اللب” أو قطعتين من البسكويت قد يظل اللب والبسكويت علي مكانهما لأيام دون أن يلمسها فهو بالفعل لا يهتم بالمسليات فدوماً مايتسلي بالقراءة والإطلاع ودوماً ما أراقبه وأتساءل: كيف تَعوَّد هذا الشاب علي كل هذه المثابرة وكل هذا الإصرار علي التعلم؟! ..
أحاول أن أقلده وأقول في نفسي ماذا يميزه ليكون لديه هذا الكم من الحرص علي التعلم؟! .. سألته ذات مرة: فينسنت.. لماذا تجلس بالساعات أمام أبحاثك وبرامجك ؟! لماذا لا تأخذ قليلاً من الوقت للترفيه والتسلية فأنت في بلاد تحترم الترفيه تماماً كما تحترم العلم؟ كان الرد صاعقاً ومبهراً فقد قالي لي بصوته الهاديء: لقد جئت إلي هنا للتعلم وسأعود يوماً إلي رواندا وسيسألني الناس عن علمي .. الحياة قصيرة ياعزيزي! ..
هذا الرد الذي جعلني صامتاً لدقائق يكاد يغلي دماغي من الصدق والواقعية في كلماته.
كان يومنا يبدأ متشابهاً فكلانا يبدأ يومه بالصلاه وقد تكرر هذا المشهد كثيراً حيث أصلي علي سجادتي وفي نفس الوقت يجلس علي ركبتيه ويضم يديه إلي وجهه في صمت وسكون .. كلانا يتجه نفس الإتجاه نصلي لرب واحد في أمان وسلام وننتهي من صلاتنا ليتجه كل منا إلي عمله ومحاضراته ..
في يوم من الأيام اشتكي “فينسينت” من ألم شديد و”حرقان” في عينيه وصداع لدرجة أن حرارته إرتفعت ولازم الفراش من المرض واستمر ليومين كاملين لا يستيقظ من المرض إلا ليشرب أو يأكل ما أعده له من بعض الخضروات المطبوخه أو بعض الحساء الدافيء وقليل من الأرز وكان يشكرني ثم يغلبه التعب فينام مرة أخري ..
كل هذا وأنا أتألم لحاله وأقول في نفسي كيف لهذا الشاب الصغير أن ينكفئ علي دراسته والأبحاث العلمية في مجالاته لدرجة أن يصيبه الإعياء بهذا الشكل المريع.. كنت أشعر بواجبي تجاه رعايته فإنك إنم لم تستطع خوض السباق فحاول أن تساعد من يخوضه بشرف وبحرص.. كنت أذاكر وأراجع دروسي وأقرأ بعض الأبحاث العلمية لكن ليس بتلك الدرجة التي يمارسها “فينسينت” يومياً.
يحكي لي “فينسينت” كيف كانت الحرب في بلاده وكيف كان الحال قبل أن يقرر الناس أن ينهضوا ببلادهم ويبذلوا الغالي في سبيل ذلك لتتبوأ رواندا مكانة عظيمة في تلك الفترة القصيرة.. لاحظت أن “فينسينت” وأبناء وطنه جميعاً متفقون علي رؤية واحدة ومجمعون علي دعم الرئيس “بول كاجامي” .. الكل يصدق أنهم يستطيعون صنع المستقبل.. الكل حريص علي العلم والتحصيل..
الكل يحاول أن يكون الأفضل.. يمرحون ويلعبون ويشربون بعض النبيذ ويرقصون ولكنهم سرعان ما تجدهم جميعاً منهمكون في التعلم والدراسة يلعبون كأن الحياه بلا دراسة ويدرسون كأن الحياة بلا ترفيه!! كان “فينسينت” يعلم عن مصر أكثر مما كنت أعلم عن رواندا ولكنني كنت حريص دائماً عن الحديث عن مصر وعظمة ومصر وتاريخ مصر وتمنياتي الرائعة لمستقبل مصر ووعدته أنني سوف أدعوه يوماً لزيارة مصر وربما أكون ضيفاً عليه في رواندا فقد حصلنا علي صداقة حقيقية لا تعرف المعاني الزائفة فقد كان الصديق والأخ والزميل ولن أنسي أبداً كلماته في آخر أيامي معه حيث كان دائماً ماينظر لي ويقول في تأثر شديد “أوووه محمـد سيذهب .. محـمد سيرحل ” وكنت أشعر فيه بحزن شديد علي فراقنا المحتم لأننا سنذهب إلي معاهدنا لأستقر أنا في وسط الصين ويستقر هو في شمال غربها .
لم أكن أعلم أنه سيأتي يوم لأري هذه الأجيال بهذا التطور والنضوج والإنتماء لأوطانهم فقد كانت الصورة الذهنية المطبوعة داخلي هي صورة أفريقيا المجاعات و أفريقيا المرض وأفريقيا الحروب والمجازر لتتغير أفكاري كلها جزرياً لأري أفريقيا في شخص الشاب الرائع الذي لن أنساه أبداً “فينسينت” .