الأخبارالمياهحوارات و مقالات

د خالد وصيف يكتب عن تطوير الرى والتعليم: «الاستماع للناس فضيلة»

خبير موارد مائية

في بداية التسعينيات تقرر بدء مشروع كبير لتطوير الري في مصر، كان المشروع طموحا ويهدف لتطوير الرى فى الاراضى القديمة كلها، وتوفر له تمويل كاف من منظمات دولية متعددة، ومساندة كاملة من اجهزة الدولة حينها.

تم استقدام خبراء أجانب لتقديم الدعم الفني للمشروع، كان منهم واحد كان خبيرا فى الأنشطة الاجتماعية والنفسية للفلاحين، وكان يتلقى راتبا هو الأكبر من بين اقرانه من الخبراء الأجانب، كان تخصصه غريبا علينا وقد اعتدنا التعامل مع خبراء في أمور فنية مثل ميكانيكا الموائع والتربة وتصميم المنشآت المائية وتنفيذها. وكانت حكاية الخبير الاجتماعى جديدة علينا.

أشرف الخبير الاجتماعى على دورات تدريبية لمهندسي وزارة الرى نتعلم منه كيف نقنع الفلاح المصرى بجدوى تطوير وسيلة الرى القديمة التى اعتاد عليها لآلآف السنين، أفكاره كانت بسيطة واستقاها من التعامل مع مناطق أخرى في العالم تشابه ظروفنا مثل المكسيك والباكستان وبنجلاديش.

كان يطلب منا ان نشرك الفلاحين في كل خطوة من خطوات تنفيذ مشروع تطوير الرى، بدءا من اعداد لوحات التصميم مرورا بالاشراف على التنفيذ ثم استلام المشروع من شركات المقاولات. وكان دائما ما يردد في محاضراته ” استمع للفلاح” حتى أصبحت لازمة من لوازم كلامه. وكان من نصائحه الذهبية ايضا ان افضل من يقنع الفلاح هو فلاح آخر مثله.

أثار أسلوب الخبير الدولى جدلا واسعا بين مهندسى مشروع تطوير الرى، البعض اقتنع بافكاره وشرع يتبناها في العقود التى يشرف عليها، والبعض الآخر رفضها تحت مزاعم ان الفلاح المصرى لايعرف مصلحته، وبالتالي لا داعى لاقناعه، ورأى انه من الاجدى ان ننطلق بتنفيذ المشروع ونضعه كأمر واقع امامه لتوفير الوقت والجهد، وسوف يجد الفلاح نفسه مضطرا لاستخدام وسيلة الرى المطورة. والبعض الآخر كان يتحدث عن الفلاحين ويشير الى جيب بذلته ولسان حاله يقول لا تشغل بالك بهم، انهم مضمونين وفى جيبنا. هكذا كان يفكر بعض زملائنا فى تلك الايام

كانت فكرة تطوير الرى تعتمد على مد خطوط بلاستيك بديلا للمسقى الترابية واستخدام محابس بدلا من السواقى وماكينات الرفع، ولان المحابس كانت كبيرة وضغطها قوى للماء لكنها فى نفس الوقت مكلفة اقتصاديا، فكانت دراسات الجدوى الاقتصادية تفضل وضع محبس واحد بديلا لخمس او ستة سواقى وماكينات رفع.

لكن تلك الجدوى الاقتصادية لم تكن تأخذ فى اعتبارها العلاقات الاجتماعية بين الفلاحين، ومدى تنازلهم عن حرية الرى المنفرد من اجل الانضمام ضمن مجموعة للرى من محبس واحد، خصوصا ان كل ساقية كانت تروى لستة افراد من اسرة واحدة. وقعت مشكلات ومشاجرات وتأخر تنفيذ مشروعات كان يمكن تلافيها لو استمع المهندسون المصممون الى الفلاحين، واستأنسوا برأيهم فى عدد المحابس او مواقعها.

وفى احدى المرات أتى الخبراء الاجانب بفكرة بوابة تعمل بشكل آلى لفتح وغلق الترع طبقا لسحب المياه بها، بدلا من البوابة القديمة التى تعمل بالرفع من خلال جنازير والتى تحمل اسم مهندس عظيم من خبراء الرى اسمه فهمى حنين.

الفكرة كانت مستوردة من دول اخرى تختلف ثقافة فلاحيها عن فلاحى مصر، وتعتمد على وجود المياه بشكل دائم ومستمر فى الترعة. ولان هذا الشرط غير متوافر فى كل الترع التى تعتمد اغلبها على تطبيق نظام المناوبات، بالاضافة الى عدم عرضها عليهم بشكل واضح.

كانت النتيجة قيام الفلاحين على الترع التى تم تركيب تلك البوابات عليها بتعطيلها بشكل دائم، من خلال وضع حجر ثقيل على جزئها الامامى ليتوقف ميكانيزم عمل البوابة وتمر المياه تحت البوابة بشكل سبب هدرا للمياه بدلا من توفيرها. ويتوقف بعدها استخدام تلك البوابات ونعود بعدها للبوابات القديمة التى يعرفها الفلاحون وتعودوا عليها.

خلال الثلاثين عاما الماضية تم تنفيذ مشروع تطوير الرى في مناطق متعددة في مصر، بعض المناطق نجح المشروع بها واقبل عليه الفلاحون، ومناطق أخرى نجحنا في تنفيذ المشروع لكننا لم ننجح في دفع الفلاحين لاستخدام الوسيلة الجديدة. وكان الفرق بين المنطقتين، هو نفسه الفرق بين فلاح تم إقناعه قبل التنفيذ، وفلاح تم تنفيذ المشروع بدون مشاركة منه.

الحقيقة اننى تذكرت تلك الحكاية وانا اتابع النظام الجديد للتعليم في مصر، وموجة الغضب الممزوجة بالشماتة (للأسف) التى اجتاحت وسائط التواصل الاجتماعى لاخفاق النظام الجديد في امتحانين متتالين للصف الأول الثانوى. لا احد في بلدنا يجادل في انتهاء العمر الافتراضى لنظام التعليم القديم المعتمد على التلقين، وعجزه عن تجهيز الطالب لمواجهة تحديات المستقبل. ولا اظن أحدا يعارض في ضرورة تطوير نظام التعليم القديم او تغييره بالكلية، طالما سيقدم في النهاية منتجا بشريا متطورا جاهزا للمنافسة في سوق العمل على المستوى المحلى اولا ثم المستوى الاقليمى والدولى ان امكن. ولا اظن أيضا ان هناك من يشكك في قدرات وزير التعليم وسيرته الذاتية المشرفة التي اكتسبها من العمل في منظمات دولية معتبرة.

اذن اين تكمن المشكلة بالتحديد؟

بدأت المشكلة في تقديرى حينما تم فرض مشروع تطوير التعليم على الناس بدون مشاركة واسعة منهم. بالرغم من انه يمس كل بيت مصرى يوجد به اثنين او اكثر فى مراحل التعليم المختلفة. وحين يكون لدينا 23 مليون تلميذ يتلقون التعليم عبر 46 الف مدرسة حكومية وخاصة، فان تلك الكتلة الضخمة لابد لها من درجة من درجات المشاركة فى النظام الذى سيجرى تطبيقه. ليس فقط لانجاحه ولكن لضمان استدامته

لم نستمع لـ”مستشار او خبير تربوي” من داخل الوزارة او من خارجها يدافع عن النظام الجديد، حتى المعلمون انفسهم الذين يربوا عددهم على المليون، وهم المفروض ان يقوموا بتنفيذ النظام الجديد لم يتلقوا تدريبات كافية عليه، ولم يؤخذ رأيهم في آليات تنفيذه وكيفية التغلب على المعوقات التي تقف امامه. غاب الحوار المجتمعى فى قضية من اهم القضايا التى تمس كل بيت، فكانت النتيجة وجود حالة توجس من اولياء الامور رافقت التجربة منذ بدايتها، زاد من توجس الاهالى وجود رفض مبطن للتجربة من شرائح واسعة من المدرسين ساعدت فى خلق تيار مقاوم لفكرة التطوير من الاساس. ومع التوجس والرفض ولدت حالة تربص تقف خلف ستار وتنتظر اول اخفاق لتنشب مخالبها فى التجربة برمتها، وقد كان

فى النهاية أصبحنا امام قضية نبيلة لم تجد محامى متمرس او هيئة محلفين ليدافعوا عنها. هنا وجدت كلمة الخبير الاجتماعى القديم ترن فى اذنى: “استمعوا للناس”

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى