د عبدالسلام منشاوي يكتب: زراعة القمح في مصر بين التحديات والحلول
رئيس بحوث ومربي قمح بمحطة بحوث سخا- قسم بحوث القمح- معهد بحوث المحاصيل الحقلية – مركز البحوث الزراعية -مصر
هناك مثل أجنبي يقول:
” الزراعة، هي الأولى في المنفعة، ويجب أن تكون الأولى في الاحترام”. توماس جيفرسون، “Agriculture… is the first in utility, and ought to be the first in respect.” Thomas Jefferson
الزراعة هي عصب الحياة وصمام الأمان للأمن الغذائي وهي الحل الأمثل لمشكلة الغذاء. ويأتي محصول القمح في المرتبة الأولى من بين المحاصيل الزراعية عالمياً. فالقمح أكثر أنواع الحبوب انتشارا على سطح الأرض وأكبرها من حيث الإنتاج ويزرع القمح في كل أنواع المناخ ابتداء من المناخ شبة القطبي وذلك بسب تعدد وتباين أنواعه وطرزه. ويوفر القمح أكبر كمية من الغذاء لأكبر شريحة من الناس في العالم، وهو الوحيد القادر على إنتاج الخبز المنفوخ، نظراً لاحتوائه على نسبة كافية من مادة الجلوتين والذي يعطي صفات الجودة للخبيز، فالقمح يتميز على سائر محاصيل الحبوب الأخرى بالجلوتين. والقمح غني بالكربوهيدرات المهمة لتوفير الطاقة للجسم، حيث يعطي كل 100جم قمح 339 كالوري من الطاقة للجسم، بجانب نسبة تتراوح بين 9 إلى 15% من البروتين. كما يوجد بالقمح كمية كبيرة من العناصر الغذائية والفيتامينات. وللقمح منافع صحية متعددة حيث وجد له دور في منع سرطان الثدي ويقلل من مخاطر ارتفاع ضغط الدم ومرض البول السكري وارتفاع الكولسترول.
ولا يقف القمح عند كونه غذاء الإنسان، بل يستخدم أيضا كعلف للحيوانات سواء كان حبوبا أو نخاله، كما يستخدم القش كمادة مالئة للحيوانات ويحتوي على قيمة غذائية مقبولة.
ولكن في الواقع هناك تحديات تواجه زراعة القمح بمصر ويعتبر ذلك تحديا يواجه العاملين في مجال البحث العلمي ويفرض عليهم مواصلة البحث والتطوير والتحديث، بهدف التعرف علي كيفية إيجاد حلول لمواجهة تك التحديات.
ويعد من أبرز هذه التحديات ما يلي:
- كسر الثبات في إنتاجية محصول القمح:
يعد هذا أهم التحيات التي تواجه زراعة القمح ليس في مصر فحسب بل في العالم أجمع، حيث نرى ذلك في مقدمة الأهداف في البرامج البحثية القومية سواء الدولية أو المحلية. وأيضا في البرامج البحثية للمؤسسات الدولية التي تعمل في مجال تربية القمح على المستوى العالمي والغير هادفة للربح والتي تعمل بهدف مساعدة البرامج القومية في الدول المختلفة. من المعلوم أنه كان هناك قفزات في إنتاجية محصول القمح في ستينيات القرن الماضي وما بعد الثورة الخضراء ولم تحدث هذه القفزات في القرن الحالي ولكن مجرد زيادات تدريجية طفيفة. ولكسر ذلك الثبات فلابد من الاهتمام بالأصول الوراثية في برامج التربية والتخطيط الجيد للقدرة الإنتاجية العالية للنسل الناتج من الهجن. كما يجب اختيار التراكيب الوراثية النموذجية وأيضا العمل على استنباط الأصناف التركيبية. أضف إلى ذلك استخدام الهجن النوعية (تهجين قمح الخبز مع قمح المكرونة أو تهجين القمح الشتوي مع القمح الربيعي) لإيجاد تباينات أكثر. كما إن استخدام الأصول البرية القريبة الصلة للقمح لإدخال الجينات المفيدة للقمح للاستفادة منها. إن استخدام التقنية الحيوية من الممكن أن يساهم في كسر ذلك الثبات من خلال الانتخاب بمساعدة الدلائل الجزيئية. أضف إلى ذلك أن تطور برامج القمح الهجين من الممكن أن يكون من الطرق الفعالة لكسر ذلك الثبات.
-
التغيرات المناخية:
تعد قضية تغير المناخ هي القضية الملحة الأكثر تداولا حاليا على الزراعة سواء على المجتمع الدولي عامة ومصر خاصة وذلك نظرا لما قد يسببه تغير المناخ من تأثيرات وتداعيات مستقبلية خطيرة. إن التغيرات المناخية المتمثلة في موجات الحرارة العالية والصقيع وفترات الجفاف الطويلة والإجهاد الحراري في نهاية موسم النمو، أدت إلى التأثير السلبي على إنتاجية محصول القمح مما أدى إلى انخفاض إنتاجية وجودة المحصول. وقد اتضح إن اتخاذ تدابير للتكيف قد تكون ضرورية من أجل الحفاظ على الأمن الغذائي في مصر في ظل تغير المناخ. ويمكن مواجهة ذلك من خلال تجارب مواعيد زراعة لمعرفة مدى تكيف الأصناف للظروف الجوية من حيث الاحتياجات الحرارية والضوئية ودراسة الحساسية للفترة الضوئية حتى نستطيع أن نضع لكل صنف خريطة لتكيفه مع الظروف البيئية وميعاد الزراعة المناسب لكل صنف. كما يجب استنباط وتطوير الأصناف التي تتكيف مع الظروف المناخية. إن زراعة أصناف من القمح تتحمل درجات الحرارة المرتفعة بالإضافة إلى مقاومتها للجفاف والأصناف قصيرة العمر والمقاومة للأمراض والآفات إلى جانب زراعة القمح في الميعاد المناسب مع الالتزام بالسياسة الصنفية لأصناف القمح على المناطق الجغرافية من الممكن أن يمنع التأثيرات السلبية المتوقعة للتغيرات المناخية أو على الأقل يخففها.
-
تدهور التربة وندرة الموارد الطبيعية:
إن الزراعة الكثيفة تعمل على استنفاذ خصوبة التربة بسبب الاستخدام الطويل ومحاولة تحقيق أقصى استفادة من الأرض الزراعية دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى كل ذلك أدى إلى انخفاض الإنتاجية. كما أن نقص كميات الطمي التي كانت تحملها المياه في السابق ساهم أيضا في تدهور خصوبة التربة. لمواجهة ذلك لابد من وجود برامج تغذية نبات على أساس علمي على ضوء نقص العناصر الموجودة بالتربة. ويجب معرفة احتياجات الأصناف المختلفة، ووجود الدورة الزراعية التي تخطط للتركيب المحصولي الذي يفيد التربة والمحصول من خلال نظام تعاقب المحاصيل بتعاقب المحاصيل النجيلية للبقولية وهكذا بما يساهم في المحافظة على خصوبة التربة.
-
تأثر التربة بالملوحة:
تعد الملوحة واجدة من أهم العوامل التي تهدد الزراعة، وتقدر المساحة المتأثرة بالملوحة في العالم بحولي مليار هكتار. وتزيد نسبة الأراضي المتأثرة بالملوحة من خلال عمليات الري بمياه تحتوي على نسبة ملوحة مع سوء الصرف مع عدم أعطاء ري للغسيل. كما أن التغيرات المناخية الحادثة تؤدي إلى زيادة نسبة الأراضي المتأثرة بالأملاح. لموجهة ذلك لابد من استنباط أصناف متحملة للملوحة ومعرفة موقف الأصناف المصرية من التحمل ومستوى كل صنف وكذلك على المزارع الالتزام بالسياسة الصنفية لأصناف القمح على المناطق الجغرافية والتي تراعي كل هذه الجوانب في وضعها.
-
الإجهادات الحيوية:
تعتبر زيادة تكلفة الإنتاج والناتجة عن زيادة معدل انتشار الأمراض والآفات التي تحتم على المزارعين الرش باستخدام مبيدات فطرية وحشرية ويقلل من الجودة أو الكمية المنتجة. ومن المعروف أن أخطر الأمراض التي تواجه محصول القمح هي أمراض الأصداء والتي تسبب خسائر كبيرة جدا لمحصول القمح حيث أنها من الأمراض التي يصعب جدا مكافحتها كيماويا إلا بضوابط معينه. إن الطريقة الفعالة والناجعة لمقومة أمراض الأصداء في العالم وفي مصر هي استنباط الأصناف المقاومة وتطوير. وتتمثل المشكلة الأساسية أن المسبب المرضي لأمراض الأصداء غير متحكم فيه حيث أنها محمولة مع الرياح و ليس هناك مقاومة مطلقة وثابتة لأي صنف مهما كان ولكنها متغيرة. وبالتالي بعد استنباط الصنف المقاوم من الممكن أن تنكسر المقاومة بعد فترة قد تطول أو تقصر حسب جينات المقاومة الموجودة في الصنف وقدرة المسبب المرضي على إحداث تغيرات في تركيبه الوراثي ليصبح اشد عدوانية وأكثر ضراوة بما يسمح له كسر المقاومة في الأصناف المتداولة. وبالتالي هناك تنافس مستمر بين مربي النبات والصنف من جهة وبين المسبب المرضي من جهة أخرى، فكلما أستنبط المربي صنف مقاوم يحاول المسبب المرضي كسر تلك المقاومة بتطوير نفسه وإنتاج سلالات ممرضة اشد عدوانية وأكثر ضراوة وتكسر مقاومة الأصناف وهكذا. لذلك يجب الحرص على زراعة الأصناف عالية الإنتاجية والأصناف قصيرة العمر والمقاومة للأمراض والآفات وذلك من خلال الالتزام بالسياسة الصنفية لأصناف القمح على المناطق الجغرافية والتي توضع من قبل قسم بحوث القمح وتراعي كل هذه الاعتبارات.
-
ندرة الموارد المائية:
من المعلوم أنه في ظل محدودية مصادر المياه بمصر وإنشاء سد النهضة الإثيوبي ورغبة الدولة وتوجها لاستصلاح مساحات جديدة متمثلة في خطة استصلاح المليون ونصف فدان أصبحت المياه تمثل تحد في المرحلة المقبلة. إن هذا التحدي يجب أن يواجه بشكل علمي مهني وطني لضمان استمرارية الزراعة بمصر بصورة عامة والقمح بشكل خاص ويكون ذلك في القمح من خلال محاور عدة. أول هذه المحاور استنباط أصناف متحملة للجفاف وقلة المداخلات مع المحافظة على الإنتاجية العالية. وثاني هذه المحاور هي تحديد الاحتياجات الفعلية من المياه للأصناف المنزرعة وما هي المراحل الحرجة التي يتحتم فيها ري القمح للوصول إلى أقل مقنن مائي مع الحفاظ على القدرة الإنتاجية العالية للصنف المنزرع.أما المحور الثالث فهو من خلال استنباط أصناف مبكرة النضج (قصيرة العمر) والتي من الممكن أن توفر ريه على الأقل فبذلك تساهم في توفير كميات كبيرة من المياه.
-
المحددات الاجتماعية والثقافية:
تعتبر صفات الجودة من حيث حجم ولون الحبوب عائق في انتشار الأصناف فمازال المزارع يفضل الحبوب كبيرة الحجم والبيضاء النشوية على الأصناف الأقل جودة منها حتى ولو كانت الإنتاجية منخفضة. مع العلم أنه في حالة التوريد إلى المطاحن يكون السعر متساوي وليس هناك ميزة نسبية للأصناف عالية الجودة. ويعتبر ذلك من المحددات الثقافية والاجتماعية للمزارعين والذي يحكمه نمط استهلاكي معين.
-
المحاصيل المنافسة والسياسة السعرية:
من حق المزارع أن يطمح في تحقيق أعلى عائد ممكن من زراعته وبالتالي فأن الأسعار والفرص البديلة تجعله يفكر ويدرس الجدوى من زراعة القمح بالمقارنة مع المحاصيل المنافسة له. في الآونة الأخيرة ظهر محصول بنجر السكر كمحصول نقدي منافس للقمح حيث يحقق عائد نقدي جيد. كما أن البرسيم يعد من المحاصيل المنافسة للقمح حيث يعمل المزارع على تأمين احتياجات المواشي الخاصة به من الأعلاف أولا قبل زراعة القمح. إن عدم تأكد المزارعين من أرباحهم تؤدي إلى تحولهم إلى زراعة المحاصيل ذات الكسب الأفضل. لذلك يجب أن يكون هناك سعر عادل يضمن للمزارع تحقيق أرباح حتى لا يقلع عن زراعة القمح. وأيضا من المهم تعريف المزارع بأهم التوصيات الفنية لزراعة القمح والتي تضمن تحقيق أعلى إنتاجية تحقق وتضمن زيادة الدخل من خلال تقليل تكاليف الإنتاج (تقليل المدخلات) وزيادة الإنتاجية (زيادة الواردات). كما أن زراعة البرسيم الفحل ويزرع بعده قمح قد يساهم في توفير كمية لا بأس بها من الأعلاف أو زراعة برسيم مسقاوي ويؤخذ منه حشتين وزراعة بعده صنف قمح مبكر النضج (قصير العمر) حيث تناسب أصناف القمح المبكرة الزراعة المتأخرة والتي تعقب البرسيم.إن كل ما سبق من التحديات والحلول يجب على متخذي القرار والعاملين في مجال البحث العلمي التعامل معها بشكل علمي مهني، ويفرض عليهم مواصلة البحث والتطوير والتحديث بهدف تفعيل تلك الحلول لمواجهة التحديات الحادثة والتي تواجه زراعة القمح بمصر.