د. حسام الإمام يكتب:حكاية “ديليسا”
مثل معظم أطفال قريتها الأندونيسية الصغيرة ، تعيش “ديليسا” مع أبويها ، تلعب وتلهو مع أخواتها وأصدقائها ، تتعلم الصلاة وتحفظ القرآن على يد الأستاذ “رحمن”. وتستعد ديليسا ليوم الامتحان ، حيث يجلس الأستاذ ويقف الطلاب أمامه الواحد تلو الآخر ليرى كيفية أدائهم للصلاة . وتتردد فى أذنيها كلمات الأستاذ أن العبرة ليست فى حفظ خطوات الصلاة ولكنه الخشوع أثناء الصلاة . اشترت الأم قلادة لابنتها لتحفزها على إتقان الصلاة ، ولتكون جائزتها عند النجاح فى الامتحان . قالت : أمى كم أنا سعيدة بهذه القلادة ، لكننى سوف أنجح فى الامتحان لأرضى ربى أولاً ، هكذا علمنا أستاذنا . ورافقت الأسرة الصغيرة ديليسا للاحتفال بها بعد نجاحها فى أداء الصلاة . وجاء الدور على ديليسا ووقفت وحدها أمام أستاذها “رحمن” والجميع يراقب من خلف السور الزجاجى ، وبدأت ديليسا صلاتها : الله أكبر ، بسم الله الرحمن الرحيم …. وفجأة اهتزت الأرض تحت أقدام الجميع ، صرخت أمها وأخواتها عليها لكى تخرج إليهم ، لكنها لم تسمع شئ ولم تشعر بتلك الهزة العنيفة ولا بمياه المحيط وهى تنطلق لتغرق وتبتلع كل ما أمامها وهى معهم ، كانت قد اندمجت وتوحد كيانها فى صلاتها فلم تشعر أو ترى أو تسمع شئ إلا حديثها إلى ربها .
كان الأب يعمل فى مدينة أخرى ، أخبروه أن تسونامى قد أغرق بلدته ، رجع بسرعة وذهب إلى منزله ، لم يعرف المكان ، اختفى كل شئ ، أين رفيقة عمره ؟ أين بناته ؟ انطلق يبحث ووجد بعض الأصدقاء فأخبروه أنهم قد دفنوا زوجته وبناته الثلاثة فاطمة وزهرة وعائشة . استغفر الله العظيم ، إنا لله وإنا إليه راجعون . هكذا قال وظل يبكى ويبكى ، وومضات متسارعة تخطف بصره وعقله يحملها شريط ذكريات يمر أمام عينيه متسارعاً ليرى صوراً ويسمع أصوات أشخاص لم يبقى له منهم ذكرى . وفجأة توقف الشريط وانتفض الأب واقفاً : ديليسا ، أين ابنتى ديليسا ؟ لم يجد أى إجابة ، فاعتبر ذلك أملاً فى نجاتها ، طالما لم يعثروا على جثتها .
كانت الأمواج قد حملتها إلى الشاطئ ليجدها أحد جنود الإغاثة وينقلها إلى المستشفى ، ولا يجد الأطباء بديلاً عن بتر إحدى ساقيها التى أصيبت بشدة . وتفيق ديليسا وهى تنادى على أمها وأخواتها ، تنظر إلى ساقها فلا تجدها . وفى لحظة احساسها بفقدان كل شئ ترفع عينيها لتجد أباها الذى كان يجوب القرية باحثاً عنها ، فتصرخ أبى أبى ويقف الأب أمام ابنته لا يصدق أن قطعة من قلبه ما زالت تنبض بالحياة .
ويبدأ أهل القرية فى إعادة بناء قريتهم ، ويبنى والدها بيتاً صغيراً لهما ، وتحاول الصغيرة التكيف مع الحياة بساق واحدة وسط أطفال القرية ، تستند إلى عكازيها وتلعب معهم ، لا تحاول أن تفكر أنه ينقصها شئ ، والأطفال لا يشعرونها بذلك ، حتى عندما أرادت أن تلعب معهم الكرة وقالت سوف ألعب فى الهجوم ، لم يجرحوها بل قالوا لها أنها أفضل من يصلح لحراسة المرمى ، وكان أحدهم يقف دائماً إلى جوارها ليصد الكرة بدلاً عنها ويضحكان . ولما فهمت الحيلة وأدركت رقة شعور زملائها قالت لهم : لا ، أنا أجيد التحكيم ، سوف أشارككم اللعب بأن أكون الحكم بينكم .
وبدأ الملاك الصغير يعود إلى حياته القديمة بالتدريج ، ويتعود شيئاً فشيئاً على ما استجد عليها ، لكن أمراً كان لا يفارقها ، أمها وأخواتها ، فكانت تذهب إلى قبورهم تتحدث إليهم ، تخبرهم عن أحداث حياتها ، وترى أمها تحدثها وتبتسم لها وتحمل فى يدها القلادة وتذكرها بالصلاة .
ويظهر الأستاذ ” رحمن ” بين من نجوا ، ويعود إلى عمله . ويأتـى يوم الامتحان ، وتجلس ديليسا أمام أهل القرية لأداء الصلاة . أغمضت عينيها وتنفست بعمق ثم قالت بهدوء : الله أكبر ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين …. قالتها بكل كيانها ، بكل إحساسها . وقف الاستاذ والمحيطين به انبهاراً وإجلالاً واحتراماً للصغيرة التى أخذتهم بنبرات صوتها وتعبيرات وجهها إلى عالم آخر ، وكأنها قد انفصلت عن كل ما حولها ، كأنها قد لامست السماء بخشوعها . نعم هى لا تشعر بهم ولا تسمعهم ، ولا تنتظر النتيجة ولا القلادة التى اشتراها أبيها جائزة لها إذا نجحت فى الصلاة ، هى تنتظر شيئاً آخر أهم علمه لها أستاذها ، تنتظر رضا ربها عن صلاتها .