بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالاتزراعة

د نورالدين عبدالحميد يكتب:عدوى البروسيلا بمنظور الصحة الواحدة

باحث أول- قسم بحوث البروسيلا- معهد بحوث الصحة الحيوانية- مركز البحوث الزراعية

تعتبر الإصابة بأحدي ميكروبات البروسيلا أو ما يعرف بالإجهاض المعدي واحدة من أهم الأمراض الحيوانية التي تصيب العديد من الثدييات البرية والبحرية وبعض أنواع الأسماك والضفادع، مع إمكانية انتقال المرض للإنسان ويدعى الحمى المالطية، وذلك عن طريق الاحتكاك المباشر مع الحيوانات المصابة أو غير المباشر باستهلاك الألبان ومنتجاتها غير المعاملة حرارياً.

وتشكل مجموعة ميكروبات البروسيلا جنساً دائم الاتساع من البكتيريا الخطرة يضم حالياً أحد عشر نوعاً من البروسيلا يوجد منها في مصر البروسيلا ميليتينسيز(المالطية) والبروسيلا أبورتس (المجهضة) والبروسيلا سويس (الخنزيرية)، ونظراً لأن الإصابة بالبروسيلا من الأمراض العنيدة العتيدة التي لا يوجد لها علاح في الحيوانات بل لقاحات وقائية تحقق حماية لا تتعدي نسبتها 75 بالمائة من الحيوانات المحصنة في أحسن الظروف، كما يستلزم علاجها في الإنسان تناول اثنين من المضادات الحيوية وربما أكثر في حال وجود مضاعفات للمرض طبقاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية.

ونظراً لخطورة الإصابة وسرعة انتشار المرض بين الحيوانات ومن ثم انتقاله إلى الإنسان وقدرة الميكروب المسبب له على البقاء حياً في البيئة المحيطة من تربة ومياه، فقد اصبح لزاماً أن يتم التعامل مع هذا المرض بشكل فعال وهو ما لا يتأتى إلا بتضافر الجهود من خلال تطبيق مفهوم ما يعرف بالصحة الواحدة، وهو عبارة عن نهج تعاوني متعدد القطاعات والتخصصات يعمل على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية.

وذلك بهدف تحقيق نتائج صحية مثالية تضع في اعتبارها الترابط بين الإنسان والحيوان والنبات وبيئتهم المشتركة، وذلك طبقا للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض (CDC)، ويلاحظ من هذا التعريف حتمية توافر التنسيق والتعاون بين الأطراف المشتركة وهم الثالوث المكون من وزارة الصحة وقطاع الطب البيطري ووزارة البيئة، وبناءً على هذا التعاون يتم تبادل المعلومات المختلفة حول المواضيع ذات الاهتمام المشترك.

فالقيام بإجراءات صحة عامة تشمل الجميع مثل الإجراءات الخاصة بصحة البيئة والحيوان يهدف في النهاية إلي تأمين مستدام لبيئة نظيفة وصحية توفر الغذاء الصحي والكساء والمعيشة وحماية الإنسان من الأمراض، وبتوفير ماسبق ذكره سوف نصل إلى مردود واحد وهو الصحة للجميع للإنسان والحيوان والنبات والبيئة التي تجمعهم في محيطها.

ولقد أجمعت المنظمات العالمية المعنية بصحة الانسان والحيوان على ثلاث محاور مشتركة للصحة العامة وهي 1- الأمراض المشتركة 2- الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية 3- صحة الغذاء، أما المجال الأول الخاص بالأمراض المشتركة والتي تعرف بأنها الامراض التي تصيب الحيوان وتنتقل منه بطرق مختلفة سواءً كانت مباشرة او غير مباشرة للإنسان وهي أكثر من 200 مرض مشترك. وطبقا للتقارير التي نشرها المكتب الإقليمي لدول شرق حوض البحر الأبيض المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية بتاريخ يناير 2020 إلى أنه حوالي مليار حالة مرضية وملايين الوفيات تم رصدها حول العالم سببتها الأمراض المشتركة، وحوالي 60 ٪ من الأمراض المعدية الناشئة التي يتم الإبلاغ عنها عالميا هي في الأصل من الأمراض المشتركة.

وفي العقود الثلاثة الماضية تم اكتشاف أكثر من 30 مسبب مرضي جديد يصيب الانسان ، علما بأن 75 ٪ منها ذو أصل حيواني. وتعتبر البروسيلا من اهم الامراض المشتركة بين كلٍ من الانسان والحيوان حاليًا حيث يتم الإبلاغ سنويًا عن حوالي نصف مليون حالة من حالات الإصابة البشرية بميكروب البروسيلا في جميع أنحاء العالم طبقا لمركز الأمن الغذائي والصحة العامة الأمريكي (CFSPH)، لكن من المفترض أن يكون العدد التقديري للحالات غير المبلغ عنها أعلى من ذلك بعشرة أضعاف بسبب الأعراض السريرية غير المحددة وغير الواضحة للمرض والتي تتشابه مع كثير من الامراض الاخري.

وعلى عكس البلدان المتقدمة فإن مرض الإجهاض المعدي هو مرض متوطن في معظم البلدان النامية بما فيها مصر، ويتراوح معدل الإصابات البشرية بالمرض في مصر من 64 إلى 70 حالة مصابة لكل 100،000 نسمة كما هو منشور بالدوريات العلمية العالمية.

ويعزى ذلك المعدل المرتفع إلى التطبيق غير السليم لنظم الأمان الحيوي وإدارة المخاطر في المزارع وإلى الثروة الحيوانية المنتشرة والكثافة البشرية العالية والعادات الغذائية التقليدية غير السليمة وغير الصحية مثل استهلاك الحليب غير المبستر ومنتجات الألبان، وكذلك التطبيق غير السليم لبرنامج السيطرة على المرض والتربية المختلطة لأنواع مختلفة من الحيوانات في مكان واحد او داخل المنازل بالأرياف والتعويض غير المنصف وغير الكافي عن الحيوانات المذبوحة اضطرارياً بعد ثبوت إصابتها بالمرض مما يؤدي الي تهرب أصحاب المزارع والغنامين والمزارعين من الفحص او بيع حيوانتهم المصابة بالاسواق والتي لاتخضع للإشراف البيطري وأيضاً الي عدم التنسيق والتعاون وتبادل المعلومات بين الإدارارت المختلفة المعنية بالمرض وإن اجتمعوا ظاهرياً لنفس الهدف.

حيث أنعكس ذلك علي العزل المستمر لميكروب البروسيلا ميليتنسيز من العوائل الغير النمطية بما في ذلك عزل البروسيلا ميليتنسيز من المجترات الكبيرة ، ومن سمك البلطي النيلي، وعزل البروسيلا ابورتس من الكلاب والقطط و عزل البروسيلا سويس من البان الابقار والي ارتفاع معدل الإنتشار السيرولوجي في كلا من الانسان والحيوان كما هو موضح في الابحاث المنشورة عن المرض والتي تتبع المعايير العلمية المنضبطة لحساب معدل الانتشار السيرولوجي الحقيقي الدقيق بتقدير حجم العينة و توافر الصفة العشوائية بها ونسبة الخطأ المسموحة وحدود الثقة.

ومن امثلة التعاون المشترك بين الجهات المعنية بمكافحة البروسيلا هو تقييم كفاءة التحصينات المستخدمة ببرامج التحكم والسيطرة بالمرض بالسنوات التالية لتطبيق التحصين وذلك بإنخفاض معدل الاصابات البشرية حيث يتعذر معرفة ذلك بالأختبارات السيرولوجية التي يصعب الاعتماد علي معظمها في التفريق بين الحيوانات المصابة و المحصنة ضد المرض.

إنخفاض معدل الاصابات البشرية في السنوات التالية للتحصين لايمكن معرفته إلا بالتنسيق بين وزارة الصحة وقطاع الطب البيطري. وكما يجب ان تبلغ الهيئة العامة للخدمات البيطرية وزارة الصحة لفحص المربيين المخالطين للحيوانات إذا ثبت إصابتها بميكروب البروسيلا كنوع من الوقاية و الشروع في العلاج إذا ثبت أصابة المربيين او العمال بالمزارع او الغنامين بالمرض وأيضاً يمكن التتبع والتوصل الي الحيوانات المصابة المسؤولة عن الاصابات البشرية من خلال التاريخ المرضي لتلك الحالات وخاصا ممن يربون الحيوانات المصابة والغير المفحوصة ارتباطا بالمهنة التي يعملون بها مثل العمال بالمزارع و الغنامين والجزارين.

وقد ينتقل المرض الي هؤلاء نتيجة قلة معلوماتهم عن طرق انتقال المرض وسلوكياتهم الخاطئة ومماراساتهم الغير سليمة و الغير امنة تجاه المرض وخاصاً اثناء الولادة وشرب الالبان الغير معاملة حرارياً وابقاء الحيوانات المصابة دون التخلص منها فلا يمكن معرفة التاريخ المرضي لتلك الحالات الا من سجلات مستشفيات الحميات والتي تبلغ بدورها الهيئة العامة للخدمات البيطرية لتتبع الحيوانات المصابة والتخلص من المصاب منها طبقا لنظام التحكم والسيطرة بالمرض المطبق رسميا.

وعلى الرغم من أن مفهوم الصحة الواحدة قد تم تنفيذه بنجاح للعديد من الأمراض الحيوانية العابرة للحدود والمشتركة بين الحيوان والإنسان، إلا أننا ما زلنا نفتقر إلى إطار عمل تنفيذي للتصدي لبعض الامراض مثل الإجهاض المعدي الذي نحن بصدده.

فالغالبية العظمى من الدراسات التي أجريت على هذا المرض والمنشورة في العالم النامي تعتمد فقط على الفحص السيرولوجي مع استحالة تمييز نوع البروسيلا من خلال الكشف عن الأجسام المضادة التي تنشأ بسبب وجود الميكروب في جسم الحيوان المصاب.

العزل والتصنيف البكتريولوجي التقليدي والتوصيف الجزيئي للبروسيلا في الإنسان والحيوان وتحديد التسلسل للحمض النووي وتحليل الاختلاف في عدد المتكررات المتتابعة للحمض النووي ودراسة الارتباط الوراثي بين الأنماط الوراثية للبروسيلا المعزولة من مصر وذلك بمقارنتها بقاعدة بيانات الأنماط الوراثية العالمية لذي أهمية بالغة في تقصي الوضع الوبائي بشكل سليم وتحديد مصدر العدوى ووضع التدابير المناسبة للسيطرة على المرض.

وانتقالا إلى المجالين الثاني والثالث من مجالات الصحة العامة الخاصين بالميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية وصحة الغذاء، فقد ظهرت عالميا عترات للبروسيلا مقاومة للمضادات الحيوية بالعديد من البلدان وخاصة الريفامبسين والذي يمثل حجر الأساس في علاج الإنسان في وجود مضاد حيوي آخر أساسي أو ثانوي أو مع اثنين من المضادات الحيوية في نفس الوقت إذا اقتضت الحاجة بعكس ماكان منتشرا سالفا بطريق الخطأ من ثبات فعالية المضادات الحيوية المستخدمة في علاج ميكروب البروسيلا حتى وقت قريب.

وعلى الرغم من العبء العالي الذي يمثله المرض في مصر والعلاج التجريبي المتكرر، فقد ظلت المعزولات المصرية حساسة لمعظم المضادات الحيوية المستخدمة في العلاج، ومع ذلك  فقد ظهرت بعض عترات من البروسيلا المعزولة من الإنسان والحيوان في مصر بالأبحاث المنشورة بالدوريات العالمية مقاومة للريفامبسين وهو ما يفسر تكرار حدوث انتكاسات للمرض مع عدم العلم بالمسبب الرئيسي الذي يقف خلف تلك المشكلة، لذا وجبت المراقبة المستمرة للمرضى عن كثب أثناء اتباع نظم العلاج القياسية ودراسة حساسية العترات المعزولة للبروسيلا من حين إلى أخر وتحديد الجينات المسؤولة عن مقاومة الميكروب للمضادات الحيوية بالتنسيق والتعاون وتبادل المعلومات بين الإدارات المعنية بالمرض وتحديث سياسات وصف المضادات الحيوية لعلاج العدوى بالبروسيلا في الإنسان.

وفي الختام لتحقيق مفهوم الصحة الواحدة لبد من مراعاة بعض النقاط الاساسية اهمها تدعيم التعاون المشترك بين الوزارات المعنية بالمرض ووضع اسس مشتركة وتشريعات تسهم في الحد من انتشاره وإختيار الإستراتيجية المناسبة للتحكم والسيطرة بالمرض وانشاء شبكة الكترونية مشتركة لسرعة تبادل المعلومات بين الجهات المعنية.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى