المياهتقارير

د أمين حسن عمر يكتب: العلاقات السودانية الأثيوبية..تقدير موقف

خبير سوداني – مصر

الحشد الاثيوبى …لماذا؟

الحشد الاثيوبى على الحدود مثير للقلق والحيرة . وذلك يحدث إثر مناوشات بين البلدين حدودية بين البلدين كادت تكون معتادة فى بداية كل موسم زراعى . عندما يدخل مزارعون أثيوبيون تحميهم مجموعات من الشفتة المسلحة الى داخل منطقة الفشقة الخصبة للزراعة الصيفية .

وقد إعتاد بعضهم أن يستأجر الأرض ممن يحوزها من السودانيين وبعضهم كان يدخل تحت حماية الشفتة فيحوز الارض قوة وإقتدارا ويزرعها تحت حماية الشفتة وهؤلاء غالبهم من قومية الأمهرا. وفى السنوات الاخيرة تكونت قوة محلية سودانية من الدفاع الشعبى إستطاعت ردع الجماعات الأثيوبية المسلحة .

وأضطر كثير من الأثيوبيين للتفاوض لإيجار مساحات من الارض إعتادوا زراعتها فى كل موسم. بيد أن نزع سلاح قوات الدفاع الشعبى المحلية هذا العام أغرى الجماعات المسلحة بالتوغل الى عمق المنطقة الزراعية . وإستقوت بالشفتة على السكان المحليين بالشفتة المسلحة .وقد نجم الاشتباك الأول بسبب خلاف محدود بين السكان المحليين والمزارعين الأثيوبين ومعهم مجموعة مسلحة من الشفتة. واستعان السكان المحليين بمجموعة صغيرة من أبنائهم من الدفاع الشعبى , فاستعان الاثيوبيين بمزيد من الشفتة . ومع وقوع خسائر بشرية وسط السودانيبن تدخل الجيش السودانى لحمايتهم , فتدخلت مجموعة أكبر من الجيش الأثيوبى فتحول الأمر الى إشتباك حدودى بين البلدين .

وحتى ههنا فإن الأمر مع كونه مؤسفا إلا انه قابل للفهم لأنه يدخل فى إطار الفعل ورد الفعل.لكن ماحدث بعد ذلك من تحشيد للقوات الاثيوبية على الحدود وخطاب إعلامى مستثار. و إستنفار للقوات حتى خارج منطقة الفشقة الى الكرمك والى محيط منطقة سد النهضة هو الأمر المثير للحيرة والقلق .

لأن الحكومة الأثيوبية ليست فى حاجة لاستفزاز الجيش السودانى. ولا إستفزاز حكومة السودان التى لا تعتبر أثيوبيا دولة صديقة فحسب بل ربما اعتبرتها قدوة تقتدى بها .

وفى أجواء مناخ غير مريح على الأقل بين اثيوبيا ومصر فليس من مصلحة الأولى دفع السودان للشعور بأمان أكبر عند التماهى مع الموقف المصرى .فلماذا يحدث هذا التصعيد الاثيوبى وفى هذا الوقت بالذات.

قبل تجشم الإجابة على السؤال يلزمنا ان نؤكد أن السياسة الخارجية الرشيدة هى التى تعتمد مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل فى شؤون الآخرين مبدأ غير قابل لإعادة النظر مهما تقلبت الاوضاع. بل فى ظروف مثل ظروف السودان وأثيوبيا فإن تجاوز فكرة التعايش السلمى الى الاعتمادية المتبادل هى الفكرة الأجدى .

وهى ذات الفكرة التى يجب أن تهدى علاقة السودان مع جيرانه شمالا وجنوبا شرقا وغربا. فالإسترتيجية هى ان تكون الحدود غير مغلقة و ان يكون تعزز العلاقات بالتكامل الاقتصادى الحدودى والتجارة السلسة والارتباط اللوجستى مثل الارتباط بالطرق والسكة الحديد والمؤانى والكهرباء والإتصالات والارتباط الأمنى فى حماية الحدود ومكافحة الارهاب والجريمة العابرة. وقد أعتمدت هذه السياسة على الأقل من الناحية النظرية منذ سنوات فى السياسة الخارجية السودانية. فما الذى يجرى الآن ولماذا تحشيد الجنود المترافق مع لهجة إعلامية غير صديقة من تلقاء أثيوبيا؟ والإجابة هى ان سبب ذلك هو موسم انتخابى مستعر فى أثيوبيا. فليس هنالك فيما أرى تغيرا استراتيجيا فى السياسة الاثيوبية .

وهذا خبر حسن ولكن الخبر السيء أن تحركات قد تمليها ظروف آنية تكتيكية ربما تنجر الى مواجهة تهدد بتغيير السياسة الكلية.

عقدة الانتخابات الأثيوبية:

وربما يسأل السائل كيف تؤثر الانتخابات فى يوليو القادم على علاقات البلدين؟ والإجابة أن الموسم الانتخابى هذه المرة موسم مستعر بعوامل الصراع الحاد بين الإثنيات من جهة وبين طرفى الانقسام الحاد فى القومية الأورومية بين ٱبى أحمد و المعارض من ذات القومية جوار محمد.

والانتخابات هذه المرة تدخلها المعارضة التى كانت تعارض من الخارج وبخاصة فى قومية الأرومية والتى يرأسها الاعلامى جوار محمد الذى كان يحوز على المواطنة الامريكية وأضطر للتنازل عنها ليستطيع زعامة حزبه حزب مؤتمر الأورمو الفيدرالى والذى يعتبر مهددا إنتخابيا قويا لحزب آبى أحمد بروسبارتى بارتى (حزب الرفاه) والذى يتبنى موقفا معتدلا من الناحية القومية بحكم رئاسة أحمد للوزراء الذى يقتضيه موقفا وطنيا اوسع, بينما يتبنى جوار احمد مطالب قوميته بقوة وتشدد وقومية الأرمو ظلت تشعر بأنها مهضومة الجانب كسيرة الجناح لعهود متطاولة من جهتين الجهة القومية والجهة الدينية .

ولاعجب ان يجد جوار محمد تأييدا يسبب قلقا عظيما للسيد آبى أحمد حامل جائزة نوبل الذى لا يسعه مجاراة المزايدات القومية التى يستعر أوراها داخل كل قومية, وبين القوميات خاصة الامهرا والتيجراى والأرمو والقومية الصومالية فى الأوغادين.

وفى أجواء سعار انتخابى ظلت قضية الفشقة تستخدم فى المزايدات الانتخابية رغم إقرار الحكومات الأثيوبية الرسمى بتبعيتها للسودان فى إطار ترتيبات حدودية فى هذه المنطقة ومنطقة سد النهضة وقضت تلكم الترتيبات بايلولة منطقة السد لاثيوبيا ومنطقة الفشقة للسودان بيد انه رغم مرور عقود طوال على الإتفاق على الحدود وتعيينها فإن ترسيم الحدود بوضع العلامات عليها ظل موضوع تطاول من الجانب الأثيوبى وصبر طويل من السودان .

و لاشك انه صبر أسىء فهمه من الجهة الاخرى. وفى اجواء هذه المزايدة الانتخابية يمكن فهم الموقف الاثيوبى الذى قد لا يبدو مفهوما للوهلة الأولى .

عقدة سد النهضة:

ثم أن هناك عامل مهم آخر مرتبط بالانتخابات فى يوليو وهو حاجة أثيوبيا ان تبدأ الملء الجزئي للسد قبل الإنتخابات وقضية ملء السد باتت هى الأخرى قضية إنتخابية داخلية أكثر من كونها تشكل توترا ونزاعا مع دولتي المعبر والمصب.فمعلوم أن ملايين الاثيوبيين قد وضعوا إستثماراتهم فى السد وغالب هؤلاء من المناطق الحدودية من الأرمو والامهرا والبنى شنقول.

وقد جرى سجال كثير حول التأخير والفساد فى بناء السد وغضب حول تقليل عدد المولدات فى السد مما أثار قلق و غضب قطاعات واسعة من السكان وهؤلاء تكررت الوعود لهم عبر تصريحات من حكومة آبى احمد بالبدء فى ملء السد هذا الموسم لبدء تشغيل أول المولدات وانتاج اول كهرباء من السد.

ورغم أنه لن يقع ملء أكثر من اربعة مليارات ونصف من الأمتار المكعبة لإنتاج كهرباء من مولدين فى أدنى السد إلا إن أثيوبيا تخشى ان بداية ملء السد يمكن ان تستفز ردود فعل مصرية تهدد السد . ولذلك فهى فى حاجة لتحشيد قوة حول السد دون أن يرتبط ذلك التحشيد بملء السد بل بمناوشات حدودية بينها والسودان.

وهذا قد يفسر إمتداد التحشيد حتى منطقة سد النهضة البعيدة نسبيا من الفشقة. لذلك من يشترى منا هذا المنطق لن يشعر بقلق من تفجر الاوضاع بصورة واسعة بين البلدين فالأمر يبدو مسالة دعاية ومواقف انتخابية .بيد أن ما قد يبدو لسبب غير خطير قد ينجر بالتداعيات الى ما لايريد هذا الطرف وذلك الطرف.

ما يهمنا فى نهاية هذا التقدير للموقف الراهن فى العلاقات بين البلدين أن تداعى الأحداث يدل على ضعف العلاقة من الناحية الفعلية وهشاشتها وقابليتها للمزايدات من الطرف الاثيوبى .

وأهم من ذلك ما يرافق التصرفات الاثيوبية مما يمكن تفسيره إستخفافا بالسودان بحكومته وجيشه.أما من الناحية الاخرى من السودان فإن الفجوة بين الموقف الذى يمثله الجانب العسكرى والموقف الذى يعبر عنه الجانب المدنى تضعف موقف السودان وتجعله فى موضع القابلية للإستخفاف.

ثانيا : تهاون الحكومة السودانية منذ سنوات طويلة فى حسم مسألة ترسيم الحدود بوضع العلامات سيجعل كل الحكومات المركزية فى أثيوبيا فى موضع متلقى الضغوط والمستجيب له من تلقاء اصحاب المصلحة من القوميات المحاددة لمنطقة الفشقة.

ولذلك ولأجل حل هذه المعضلة المتكررة فى كل موسم زراعى يلزم الحكومة السودانية موقف واضح وحازم تحدد فيه موعد اقصى لاكمال وضع العلامات وإلا ترفع الأمر الى مجلس الأمن بوصفها مسألة مهددة للأمن الإقليمى فحكومتنا تفعل نفس الشىء فى موضوع حلايب رغم خصوصية العلاقة مع مصر.

ولكن من ناحية أخرى يجب ان يترافق ذلك مع خطة استثمار مشترك يساهم فيه كل طرف السودانى والأثيوبى بأصول مالية او غير مالية ويشرك في الاستثمار اصحاب المصلحة من المزارعين والملاك من السودان والمزارعين المنتفعين من أثيوبيا لجعل الحل حاملا للفوز للجانبين.

فقد ظل اثيوبيون يزرعون مساحات من الأرض فى الفشقة من زمان متطاول من خلال الدخول للأرض دون إذن او بإتفاق إيجارى والسكان على الحدود أقل مراعاة للمحاصاصات الوطنية فهم لا يكادون يعترفون بالحدود فاصلا وقاطعا لمصالحهم. ولذلك لابد للحدود ألا تكون مثل حد السكين تقطع ولا تصل بل لابد من إتباع استرتيجية تكاملية فى الحدود كل الحدود على جميع الجهات و لا تكون على حساب طرف واحد من البلدين هنا أو هناك ولا يكون الفائز فيها ولا الخاسر طرف واحد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى