اخبار لايتالأخبارالاقتصادالانتاجالصحة و البيئةالمياهبحوث ومنظماتحوارات و مقالاتمتفرقات

د مصطفي فايز يكتب:  تقدم الأمم وخيارات النحل والنمل

النملة تدخر القوت لفصل الشتاء، وهي إذ تخزن القوت الذي جمعته، تتركه كما وجدته، فحبة القمح تظل حبة قمح وقطعة السكر تبقى قطعة سكر، فكل ما على النملة أن تؤديه في هذا السبيل، هو أن تجمع ما تصادفه صالحًا لطعامها وترصه في بيتها رصًّا على مستوى الأرض، أو تكومه بعضه فوق بعض، وتحاول في أثناء هذا العمل أن تحافظ عليه وأن تخزنه تخزينًا سليمًا.

لقد رأيت في صباي، وأنا في الحديقة، نملة كبيرة تناور«صرصارًا» وتداوره، ثم تلدغه في أم رأسه لدغة رأيته يتجمد بعدها؛ فبعدتْ النملةُ عنه مسافة قصيرة؛ حيث أخذت تحفر جحرًا، وبسرعة البرق تم لها ما أرادت، فعادت إلى فريستها وجرته إلى حيث الجحر، واعجباه كيف أخذت تقيس «الصرصار» طولاً وارتفاعًا بخطوات سريعة أخذت تخطوها بجانبه، متسلقة جسده، ثم تدخل الجحر بعد ذلك وحدها، ولعلها وجدت الجحر أصغر من أن يسع الفريسة، فراحت توسعه بحفر جديد؛ وأعادت عملية القياس، فلما اطمأنت، شدت صيدها حتى أدخلته في محبسه وردمت من تراب الحفر حتى أغلقت فتحة الدخول، وذهبتْ إلى حال سبيلها.

ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته، فهو ماهر كل المهارة في جمعه لكنه لا يغير منه شيئًا؛ وأما النحل فله شأن آخر؛ لأنه ما إن يمتص من الزهور رحيقها، حتى يدير لها معامله الداخلية، فتخرجه في الخلية عسلاً.

وعلى طريقة النمل والنحل يكون الإنسان في جمع معارفه وعلومه: فتارة يصنع بها صنيع النمل، وطورًا يجري عليها طريقة النحل، وبين الطريقتين تختلف الشعوب، وكذلك تختلف العصور: فشعب ما، أو عصر ما قد تسوده عملية الجمع والتخزين، حتى إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشيء من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد؛ ليستخدمه كما كان قد تلقاه وحفظه؛ لكننا في الوقت نفسه قد نجد شعبًا آخر وعصرًا آخر، لا يستريح إلا إذا تحولت المواد المجموعة على يديه خلقًا جديدًا، وبمثل هذا الإبداع يتقدم الإنسان، ولعلك تلحظ عملية الجمع مشتركة في الحالتين، لكن بينما يقف عندها النمطي في الحالة الأولى، يتخطاها المبدع إلى مرحلة أرقى في الحالة الثانية؛ فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده، فأما النمل فيخزن ما تجمع كما هو، وأما النحل فيصيِّر ما جمعه شيئًا جديدًا.

إن مصر قد مضى على بدء نهضتها الحديثة حتى الآن أكثر من مائتين من السنين؛ إنها بدأت نهضتها قبل أن تبدأ الصين نهضتها؛ وقبل أن تبدأ اليابان نهضتها، بعقود، ولكن مصر خلال هذه الأعوام لم تبلغ من النهوض ما يكفي أن تبتكر الجديد وتضيفه، كما فعل مَنْ بدأ الشوط بعدها.

فما علة ذلك؟

إن ذلك قد تكون له علل كثيرة، منها أن مصر قد اختارت –على الأغلب- طريقة النمل، وقلما صنعت صنيع النحل، فأصبح لديها ما لديها من خزائن العلوم والفنون، لكنها مليئة بما أبدعه غيرها، إذًا الأمر ليس هو: إما منهج النمل وحده وإما منهج النحل وحده؛ إذ قد يجمع الفرد الواحد شيئًا من طريقة النمل وشيئًا من طريقة النحل، ومثل هذا الجمع بين الطريقتين نراه قد تحقق لعدد من أعلام النهضة الحديثة في مصر، ولكننا إذا أردنا حكمًا بما هو أغلب على مجرى حياتنا طوال هذه الأعوام، قلنا إنه منهج النمل في الجمع والتخزين.

إن أوروبا في نهضتها التي وصفت بأنها ولادة جديدة، كانت المرحلة الأولى منها شبيهة بما يصنعه النمل بطعامه المدخر، جمعًا وتخزينًا، حتى يحين له الحين؛ فما انفكت أوروبا في أواخر عصورها الوسطى، تجمع بين يديها أهم ما أنتجه العقل البشري: من ثقافة اليونان، وثقافة الرومان، وثقافة العرب.

وتُرجم هذا كله، وأخذت دائرة انتشاره تتسع، حتى بات في متناول الدارسين في الأديرة والجامعات، وتحت أيدي رجال الفن والأدب، ثم جاء دور النحل والعسل فإذا الدنيا أمام روح جديدة وعقل جديد، ولم تكن تلك الجدَّة مقصورة على علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق، ولا على رجال فن من أمثال رفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، ولا على أدباء وشعراء مثل شكسبير، بل الجدُّة شملت روح الحياة نفسها، وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بكل شيء جديد؛ فانطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة، والأرض البعيدة، ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدرًا للخوف، لقد دبت في الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الأستار وما اختفى في الظلمات؛ فكان من كل ذلك أن دخل العالم عصره الجديد: علمًا، واكتشافًا، وأدبًا، وفنًّا.

نحن، بعد أن قضينا أكثر من 200 سنة، منذ انفتحت أبوابنا على أوروبا التى بدأت بذلك الانفتاح نهضتنا الحديثة؛ لو أننا استثنينا قلة قليلة مما أنتجناه خلال تلك الفترة، لوجدنا إنتاجنا أشبه شيء ببيوت النمل؛ فهو إنتاج يمكن أن يلخص في هذه الصيغة.

قال أسلافنا كذا، وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه (كيت)؛ فلا نزال، حتى في الموسيقى والشعر، اللذين لا يكونان شيئًا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقار والشاعر؛ لا نزال بين رجلين: أحدهما يقول: هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا وكذلك يفعل الآن مع الموسيقى العربية ومع ألحان سيد درويش والآخر يقول: بل هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب، ولا أقول شيئًا عن موقفنا في ميادين التكنولوجيا والفكر والعلم والنظم على اختلافها؛ فواضح أننا في ذلك كله ننحصر في إطار نفس الصيغة، وهي أن صوتًا ينادي بما أخذ به السلف فيرد عليه صوت آخر بما يسود الغرب؟ ولم تتبلور لنا بعدُ وجهة أو مفهوم ولم نعرف بعدُ الاتجاه الواجب علينا بعد العلم وبعد الفهم؛ فبعد العلم لا بد من العقل الذي يوظف العلم في كل موقف متجدد.

إنه لا بأس في أن نصغي بآذان مرهفة لما قاله أسلافنا، وما قاله الغرب من أسلافه إلى معاصريه، بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتهم أن تعتدل على ساقين، ولكن البأس كل البأس هو في أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفى؛ إذ يبقى بعد ذلك دور النحل في التمثيل والتحويل؛ ليتاح لنا أن نقول: (هذا كتابُنا بيميننا)، وعلى أساسه يكون الحساب؛ ولقد تحقق لنا هذا بالفعل في كثير من الإبداع الأدبى، وفي قليل من الفن، ولكنه لم يتحقق في الفكر والعلم بشتى جوانبه، لا كثيرًا ولا قليلاً، اللهم إلا قطرات لا تطفئ ظمأ العصفور.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى