د عبدالسلام منشاوي يكتب: خبز القمح ومنتجاته الغذائية (بين تزيف الوعي والحقائق العلمية)
رئيس بحوث متفرغ – قسم بحوث القمح – معهد المحاصيل الحقلية – مركز البحوث الزراعية – مصر
من نافلة القول أن الزراعة هي عصب الحياة وصمام الأمان للأمن الغذائي، وهي الحل الأمثل لمشكلة الغذاء. ويعد القمح الغذاء الرئيسي للإنسان في معظم دول العالم, لأنه يوفر أكبر كمية من الغذاء لأكبر شريحة من الناس. ويعزو العلماء هذه الاهمية الي القيمة الغذائية لدقيق القمح كامل الحبة حيث أن مقدار 100جم من دقيق القمح كامل الحبة الجاف تعطي معدل 340سعر حراري ويحتوي على 73 جم كربوهيدرات و12جم ألياف و14جم بروتين وأكثر العناصر فيه هي البوتاسيوم 400ملجم والفسفور 345ملجم والمغنيسيوم 140ملجم.
ويحتوي ايضًا على الحديد والكالسيوم والمنجنيز والصوديوم والزنك. ومن الفيتامينات CوE والثيامين والرايبوفلافين والنياسين وكلها بمعدلات مناسبة لتغذية الإنسان, كما أن جنين الحبة غني بفيتامين E والدهون وB-plex والفوليت، لذا إذا تٌرِكت حبوب القمح في مكان معزول وأصابتها الحشرات، فإنها تأكل الأجنة وتترك الأندوسبرم النشوي فكم هي ذكية تلك الحشرات!.
أما عن أغلفة الحبوب (النخالة) فهي غنية جدا بالألياف ومضادات الأكسدة وحامض الفيروليك والفايتك واللوتين والفلوفونويدات وغيرها من مركبات عدة.
كما أن مجموعة فيتامين B تمد الجسم بالطاقة والحيوية، وبالأخص الدماغ، وكذلك مستوى الأداء العام للجسم. فضلا علي ان القمح ويحتوي علي مركبات نباتية أخرى تجعل الانسان يشعر بالشبع مدة أطول.
دقيق القمح ومنتجاته
تأسيسا علي ما تقدم يتضح أن أفضل دقيق للقمح من الناحية الصحية هو الناتج من الحبة الكاملة غير منزوعة الاجنة Whole Kernel Wheat ، ودون إجراء عمليات استخلاص، إذ أن نزع الأجنة وطحن بقية الحبوب واستبعاد النخالة هو تخريب القيمة الغذائية لدقيق القمح مما يؤثر سلبا علي صحة الإنسان.
ومن الثابت علميًا احتواء هذا الدقيق على مجموعة كبيرة من مضادات الأكسدة التي قد تحمي الخلايا من الجذور الحرة التي قد تسبب مرض السرطان، ويحتوي ايضا على صبغة اللوتين التي تعطي اللون الأصفر الجذاب لمنتجاته، ودقيق القمح مفيد جدا لبكتريا الهضم, وللنخالة دور فعال في تحسين حركة الأمعاء وطرح الفضلات منها. فضلا عن ذلك فإن خبز القمح لما يحتويه من ألياف نافعة يعد من الأغذية المفيدة في تجنب الإصابة بأمراض القولون.
اما عن جلوتين القمح فهو من أهم البروتينات الموجودة بالقمح، وأهم مكونين له هما الجلوتنين (Glutenin)، والجليادين (Gliadin) وهما من الاحماض الامينية المشبعة ويتحملان المسؤولية عن قوام العجين، ومرونته، وارتفاعه عند الخبز، وذلك لأنّ هذه البروتينات تشكّل شبكةً لزجةً عند خلط الطحين مع الماء والملح.
جلوتين القمح المفترى عليه
يُعدّ الجلوتين محطّ جدل، إذ يعتبره الكثيرون آمناً ولا يسبب مشاكل صحيّة لغير المصابين بمرض حساسية القمح، بينما يعتقد آخرون بأنه مضرّ لمعظم الأشخاص.
فقد ظهر تحت مسمى الطب الوظيفي والتغذية العلاجية أراء تنادي بترك كل منتجات القمح من الخبز والبيتزا والفطائر والمعجنات والمكرونة والبسكويت… الخ, بزعم الأضرار التي تسببه تلك المنتجات.
وتتمثل حجتهم أن القمح غيرته الهندسة الوراثية مرات عديدة فاصبح يحتوي على مخزون ضخم من بروتين الجلوتين (فالتعديل الوراثي جعل نسبة الجلوتين في القمح الحديث عشرة أضعاف القمح التاريخي القديم) الامر الذي ادي بزعمهم إلي التحذير من استخدام منتجات القمح مدعيين أنها تسبب مرض السكري وهشاشة العظام و….الخ.
بل وصل الأمر بقول أحدهم أن 95 % من القمح المتداول في العالم حاليا معدل وراثيا. وأن التعديل الوراثي في القمح بدأ عام 1885م، وقد جانب هذا الرأي الصواب حيث الاكتشاف المذهل والذي أدى إلى تطور علم الوراثة بشكل كبير جدا في عام 1953م حينما اكتشفا العالمان جيمس واتسون وفرانسيس كريك حلزون دنا (DNA) والمعروف بنموذج واتسون وكريك والذي أحدث ثورة في علم الوراثة، وقد نالا على اكتشافهما جائزة نوبل. والسؤال الذي يطرح نفسه ، هل يوجد قمح معدل وراثي؟ وما هو الفرق بين التعديل الوراثي والتحسين الوراثي؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات يجب علينا ان نعرف الفرق بين التحسين الوراثي (الأقماح المحسنة وراثيا) والتعديل أو التحوير الوراثي (الأقماح المعدلة أو المحورة وراثيا) مع التبسيط ودون الدخول في التفاصيل العلمية.
أولا التحسين الوراثي:
يقتصر تدخل الإنسان (مربي النبات) فيه من خلال طرق التهجين التقليدية بين الأصول الوراثية التي تحمل الصفات المرغوبة. ويهدف التهجين إلى إيجاد تباينات (اختلافات) وراثية أو تراكيب وراثية جديدة يتم من خلالها الانتخاب والحصول على أصناف جديدة تحمل صفات مرغوبة تتميز في الإنتاجية وتتحمل للظروف البيئية, فهذا التحسين ليس به أي مشاكل.
ثانيا التعديل الوراثي:
ويقصد به تعديل في التركيب الوراثي للنبات من خلال أحد تقنيات التكنولوجيا الحيوية للهندسة الوراثية عن طريق إدخال جينات جديدة للنبات أو تحوير في التركيب الجيني وذلك بهدف تحمل الإجهادات (سواء كانت إجهادات حيوية أو غير حيوية) مثلا أو خلافه من الأهداف الأخرى. وهذا النوع عليه تحذيرات وممانعات على المستوى العالمي، وفي الواقع لا يوجد أصناف تجارية من القمح معدلة وراثية.
وعودا علي بدء للحديث عن حساسية الجلوتين يجب ان نعرف انه لا يخفى على أحد منذ القدم وجود نوعين من الأمراض لدى بعض الأشخاص ممن لديهم بعض المشاكل الصحية ـــــ وهي نسبة نادرة بين البشرــــــ الأول وهو حساسية الجلوتين Gluten Sensitivity أو السيلياك Celiac Disease وهو مرض مناعي حيث يعاني المصابون به من عدم قدرة بطانة الأمعاء لديهم على الامتصاص، وذلك نتيجة لتلفها بسبب تناولهم للأطعمة التي تحتوي على بروتين الجلوتين الموجود في محاصيل القمح والشعير والشوفان.
وهذه المشكلة خاصة بالجهاز الهضمي للشخص المريض نفسه وليست راجعة إلى القمح بدليل أن هناك المليارات من البشر ليس لديهم مشاكل مع التغذية بالقمح, وفي هذه الحالة يجب الامتناع تماما عن تناول الجلوتين (كل منتجات القمح)، وعليهم أن يأكلون الخبز المصنع من دقيق الذرة الصفراء والبيضاء والحمص والصويا والدخن والبطاطا وأمثالها، إذ أنها لا تحتوي على الجلوتين.
أما المرض الثاني هو عدم تحمل الجلوتين Gluten Intolerance ، في هذه الحالة يعجز الجسم علي تحمل كميات معينه من الجلوتين مثلها مثل مواد غذائية كثيرة كالحساسية من الفول والألبان ومنتجاتها وغيرها من المواد الغذائية. وهذا النوع يحتاج أن يقلل الشخص نسبة الجلوتين التي يتناولها يوميا وليس المنع بضروري.
ويؤكد صدق وصحة ما طرحناه حول العلاقة بين تحسين أصناف القمح ومرضي زيادة الحساسية وعدم تحمل جلوتين القمح, نعرض للدراسة التي أجريت حديثا (2020) علي يد كيميائي الأغذية وعلماء الأحياء في معهد لايبنيز لبيولوجيا النظم الغذائية في الجامعة التقنية في ميونيخ (Leibniz-Institute for Food Systems Biology at the Technical University of Munich ) في ألمانيا ومعهد لايبنيز لعلم الوراثة النباتية وبحوث المحاصيل النباتية (Leibniz Institute of Plant Genetics and Crop Plant Research ) لمحاولة إيحاد إجابة لسبب لماذا أصبح عدم تحمل القمح والجلوتين أكثر شيوعًا وهذا الموضوع له أهمية متزايدة في الدول الغربية.
ومفادها انه ذهب كثير من الناس إلى أن أصناف القمح الحديثة تحتوي على بروتينات مناعية أكثر مما كانت عليه في الماضي، وأن هذا هو سبب زيادة حدوث الاضطرابات المرتبطة بالقمح”.
ومن أجل المساعدة في فهم وتوضيح ذلك، قامت كاثرينا شيرف (Katharina Scherf) وفريقها في معهد لايبنيز لبيولوجيا النظم الغذائية بفحص محتوى البروتين في 60 صنف مفضلاً من القمح في الفترة ما بين 1891 و 2010. وقد تم تحقيق ذلك من خلال معهد لايبنيز لعلم الوراثة النباتية وبحوث المحاصيل النباتية ومن خلال سجلات البذور الشاملة الخاصة بها. ومن سجلات الأرشيف، اختار الباحثون خمسة أصناف قمح متميزة لكل عقد خلال 120 عامًا وتم فحصها.
ومن أجل الحصول على بيانات حقيقية للمقارنة، قاموا بزراعة الأصناف المختلفة في أعوام 2015 و 2016 و 2017 في نفس الظروف الجغرافية والمناخية. وأظهرت التحليلات التي أجراها فريق العلماء أن أصناف القمح الحديثة بشكل عام تحتوي على بروتين أقل قليلاً من الأنواع القديمة.
في المقابل، ظل محتوى الجلوتين ثابتًا على مدار الـ 120 عامًا الماضية، على الرغم من أن تركيب الجلوتين قد تغير قليلاً. بالإضافة الى ذلك فقد لاحظ الباحثون ارتفاع محتوى الجلوتين في العينات في المواسم التي تكون عالية في الامطار.
كما أكدت الدراسة أن “المثير للدهشة أن الظروف البيئية مثل هطول الأمطار كان لها تأثير أكبر على تركيب البروتين من التغيرات التي تسببها تربية النبات. بالإضافة إلى ذلك، أكدت أنه على مستوى البروتين، لم نعثر على أي دليل على أن القدرة المناعية للقمح قد تغيرت نتيجة لعوامل الزراعة”، هكذا قالت شيرف (Scherf)، التي تواصل الآن بحثها كأستاذة في معهد كارلسروه التكنولوجيا Karlsruhe Institute of Technology (KIT).
ومع ذلك، أشارت شيرف (Scherf) أيضًا إلى أنه لم يتم التحقيق في جميع أنواع البروتينات الموجودة في القمح فيما يتعلق بآثارها الفسيولوجية.
لذلك، لا يزال هناك الكثير من نقاط البحث الذي يتعين القيام بها، على حد قولها. وبالتالي فهذا دليل مؤكد على تبرئة ساحة القمح والجلوتين الخاص به وكذلك علماء تربية القمح من دعوى أن زيادة نسبة البروتين والجلوتين في القمح وعلماء تربية القمح كانوا سبب في زيادة أمراض الحساسية للجلوتين وعدم تحمل الجلوتين في القمح.
وخلاصة القول
بأن دقيق القمح كامل الحبة بريء من الادعاءات الموجة اليه بتسببه في الاضرار بصحة الانسان, بل أن الجلوتين هو المكون الأساسي لبروتين القمح والذي يعد عاملا محددًا لجودة وسعر القمح، وكلما كان عاليا كان أفضل وأعلى سعرا, بالإضافة الي أن مصر قبل خمسينيات القرن الماضي كانت تزرع الأقماح الرباعية وهي أقماح المكرونة فقط وهي أقماح مرتفعة في محتواها من الجلوتين, ثم بعد ذلك تم إدخال الأقماح السداسية وهي أقماح الخبز من الهند. وأيضا أن برامج التربية للقمح في العالم تسعي لزيادة جودة القمح بزيادة نسبة البروتين لتساهم في حل مشاكل نقص البروتين في التغذية.
ويمكننا القول بان المتهم الرئيسي هو: عملية استخلاص دقيق القمح بنسب عالية, مما يقلل من قيمته الغذائية.