الأخباربحوث ومنظماتحوارات و مقالات

د عاصم عبدالمنعم يكتب: المناخ والمنافع الإقتصادية المترتبة على قطع أشجار الغابات

استاذ إقتصاديات التغيرات المناخية – المعمل المركزى للمناخ الزراعى- مركز البحوث الزراعية

يعتمد نحو 350 مليون شخص حول العالم على الغابات فى معيشتهم اليومية، كما تدعم أنواع الغابات الخشبية والغذائية والطبية صناعات بملايين الدولارات ومع ذلك تَظل هذه الثروة من التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية مُعرضة للخطر بسبب إزالة الغابات وتدهورها. من المعروف على نطاقٍ واسع أن الأنشطة البشرية تَضع التنوع البيولوجي العالمى تحت ضغط متزايد وتُعد الغابات الاستوائية والمُعتدلة من بين أكثر النظم البيئية تنوعًا بيولوجيًا في العالم.

وتوفر الغابات العديد من خدمات النظم الإيكولوجية بما فى ذلك صيانة العمليات البيوكيميائية الحيوية مثل دورة المغذيات واحتجاز الكربون وتنقية المياه والتحكم فى المناخ الدقيق. تُخزن الغابات والتربة فى العالم أكثر من تريليون طن من الكربون أى ما يعادل ضعف كمية الكربون الموجودة فى الغلاف الجوى وتَتَمتع الغابات بالقدرة على امتصاص نحو 10% إلى 20% من إجمالى الانبعاثات العالمية المُتوقعة فى النصف الأول من القرن الحادى والعشرين.

لتقليل انبعاثات الكربون العالمية هل ينبغى للناس قطع واستخدام المزيد من الخشب أم ترشيد الحصاد؟

هذا السؤال يُشكل الأساس لمزايا السياسات التى تُشجع محطات الطاقة ومرافق التدفئة على حرق المزيد من حبيبات الخشب وتُشجع المُتخصصين على بناء المزيد من المبانى الخشبية الشاهقة. ففى تقرير التكاليف الكربونية لحصاد الأخشاب العالمى الذى نُشر فى مجلة نيتشر فى عام 2023، قَدر بُحَّاث المعهد العالمى للموارد (WRI) باستخدام نموذج فيزيائى حيوى أن حصاد الأخشاب السنوى على مدى العقودِ القليلةِ القادمة سوف يَنبعث منه ما يتراوح بين 3.5 إلى 4.2 مليار طن من ثانى أكسيد الكربون سنويًا، وهذا يُعادل أكثر من ثلاثة أمثال متوسط ​​الانبعاثات السنوية الحالية لقطاع الطيران فى العالم.

وتَحدث هذه الانبعاثات الناجمة عن حصاد الأخشاب لأن الغالبية العظمى من الكربون المُخزن فى الأشجار يتم إطلاقه فى الغلاف الجوى بعد الحصاد (قطع الاشجار) عندما تَتَحلل الجذور والأفرع والأوراق حيثُ يتم حرق معظم الأخشاب مُباشرة للحصول على الحرارة أو الكهرباء أو الطاقة فى مصانع الأخشاب أو مصانع الورق وعندما تَتَحلل أو عندما تَحترق المنتجات الورقية والأثاث ومنتجات الخشب الأخرى الثانوية.

وتَوصلت دراسة حديثة نشرت فى مجلة “نيتشر” بالاضافة الى العديد من الدراسات الأخرى مثل (ايرب 2018، والكر 2022، كيث 2024) إلى أن الغابات المُتبقية فى العالم فَقدت كمية من الكربون أكبر بكثيرٍ مما فقدته تاريخيًا مقارنةً بتحويلِ الغابات إلى الزراعة وَيَرجع ذلك فى المقام الأول إلى حصاد الأخشاب.

وبناءً على هذه التحليلات فإن الحل الطبيعى لمشكلة المناخ يَتَطلب قطع كميات أقل من الأخشاب والسماح لمزيد من الغابات بالنمو مرةً أخرى ومن شأن هذا أن يُخزن المزيد من الكربون فضلاً عن تَعزيز التنوع البيولوجى للغابات.

ركزت تكاليف الكربون على الانبعاثات المادية الصرفة من حصاد الأخشاب وإدارة الأخشاب مقارنةً بترك الغابات وحدها وهذا يتفق مع النهج الذى استخدمته الهيئة الدولية الدولي المعنية بتغير المناخ (IPCC) لعقود من الزمن والعديد من الأوراق الأخرى لتقدير الانبعاثات من حصاد الأخشاب الجديدة.

ولكن هذا يَختلف عن بعض الدراسات التى تَزعم أن الكربون المُنبعث إلى الغلاف الجوى نتيجة لحصاد واستخدام الأخشاب ينبغى تجاهله عمومًا وتفترض هذه الدراسات أن الأخشاب مُحايدة كربونياً تماماً مثل الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح طالما أن مساحات أخرى من الغابات فى منطقة كبيرة (غالباً دولة بأكملها) تنمو بما يكفى للحفاظ على إجمالى كمية الكربون المخزنة فى الغابات مستقرة وهو ما ينطبق على الغابات في أغلب البلدان.

إلا أن هذه الحُجة في حد ذاتها لا معنى لها فإذا لم يتم حصاد (قطع أشجار) بعض أجزاء من غابات بلد ما فإن الغابات في هذا البلد ككل سوف تنمو بشكلٍ أكبر وتَمتص المزيد من الكربون مما يُقلِل من ظاهرة الاحتباس الحرارى العالمى.

إن هذا الأساس الغير المنطقى للحياد الكربوني يُعادل تقريبًا المثل القائل بأنه فى حال أن شركة ما فى بلدٍ ما تَتَعرض لخسائر مادية (إلا أنها لا تعد خسارة) فى حال إذا كانت الشركات الأخرى فى نفس البلد رابحة بشكلٍ عام.

ولكن بعض الباحثين مثل مطورى النموذج العالمى للأخشاب لديهم أيضًا حجة أكثر دقة حول تسبب حصاد الأخشاب فى انبعاثات منخفضة أو معدومة أو حتى سلبية فإن ادعائهم الأساسي هو أن تأثير الغابات على الكربون هو مسألة اقتصادية تتطلب التحليل باستخدام نموذج اقتصادي وليس نموذجا حيويًا فيزيائيًا ووفقًا للنموذج العالمي للأخشاب فإن زيادة الطلب على الخشب لأى منتج واحد يُؤدى إلى مجموعة من النتائج التي يمكن أن تخفض تكاليف الكربون وتشمل هذه الحث على زراعة المزيد من الغابات والحد من استهلاكهم لمنتجات الخشب الأخرى وتكثيف إدارة الغابات.

وعلى هذا فهذه الفكرة أى زيادة الطلب على الخشب تُؤدى إلى المزيد من الغابات ترتبط بفكرة أوسع: أن الغابات موجودة بسبب الطلب على الخشب وهذا يكمن وراء آراء العديد من الآخرين الذين يرون الخشب محايدًا للكربون.

النموذج العالمى للاخشاب  Global Timber Model هو بلا شك النموذج الاقتصادي الأكثر استشهاداً به لتحليل العواقب الكربونية المترتبة على استخدام الأخشاب على مستوى العالم، وبالتالي فإن نتائجه قد تكون لها آثار سياسية خطيرة والأمر المهم هنا هو أن النموذج استُخدِم للتأكيد على المزايا المناخية المترتبة على حصاد المزيد من الأخشاب لإنتاج الطاقة الحيوية وخاصة حرقها فى محطات الطاقة.

وتُشير إحدى دراسات النموذج العالمى للاخشاب إلى أن الطلب المتزايد بشكلِ كبير على الخشب لإنتاج الطاقة الحيوية قد يُؤدي إلى تحويل نحو 1.1 مليار هكتار من الأراضي الزراعية إلى غابات فى مختلف أنحاء العالم وهذه المساحة تُعادل أربعة أمثال مساحة الهند وتُعادل أكثر من 70% من الأراضى الزراعية العالمية الحالية وهو ما يُثير التساؤل حول المصدر الذى قد يأتى منه الغذاء فى العالم إذا تم هذا التحويل.

لقد طلبت العديد من الحكومات منها حكومة الولايات المتحدة على وجه التحديد تعليقات حول دور النماذج الاقتصادية فى التعامل مع الأخشاب باعتبارها محايدة أو سلبية للكربون وعلى هذا نلقي نظرة فاحصةً على كل من النماذج الاقتصادية والفيزيائية الحيوية وما يخبرنا به كل منها أو لا يخبرنا به عن العواقب المناخية لاستخدام الأخشاب.

هل يؤدي زيادة الطلب على الخشب إلى زيادة الغابات؟

تُشير معظم الدراسات المتعلقة بتجارة الاخشاب بأنه لا أحد يقترح بجدية أن كل الغابات التى يتم حصادها أو حتى أغلبها لا وجود لها إلا بسبب الطلب على الخشب ويشمل ذلك الغابات المطيرة فى حوض الكونغو وحوض الأمازون وجنوب شرق آسيا وألاسكا والتى لا تزال كل منها تخضع لعمليات حصادٍ كبيرة كما يشمل ذلك أيضًا الغابات الشاسعة التى يتم حصادها بكثافة في سيبيريا وكندا حيث الطقس شديد البرودة والتى لا تَصلح للزراعة.

في واقع الأمر تَمتلك الحكومات 75% من غابات العالم وهى تستجيب لحوافز متعددة وحتى فى الولايات المتحدة الأمريكية وهي دولة ذات توجه راسمالى يُشير نحو 30% من مالكى الغابات الذين يَمتلكون الغابات الخاصة أن عائدات الأخشاب تُشكل أحد الأسباب العديدة التي تجعلهم يمتلكون الغابات.

لا أحد يجادل جدياً فى أن جميع الغابات نشأت بسبب الطلب على الخشب أو أنها ستختفي بدونه، ومع ذلك فمن الممكن أن يُؤدى ارتفاع الطلب على الخشب (من خلال تعزيز أسعار الأخشاب وبالتالى ربحية الغابات) إلى زراعة المزيد من الغابات أو الحفاظ عليها بالإضافة إلى حصاد المزيد من الغابات القائم.

وهذا هو الادعاء الوارد فى بعض مخرجات نموذج إدارة الغذاء والدواء ولكن لكى نجابه الطلب المرتفع على الأخشاب بشكلٍ عام فلابد أن يؤدى ذلك إلى زيادة الغابات على مستوى العالم وليس فقط فى بعض المناطق. ولن يكون من المفيد أن تزداد مساحات الغابات على حساب المناطق الزراعية فى مكان ما ثم تتوسع الزراعة والتصنيع الزراعى على حساب الغابات فى أماكن أخرى.

ما الذى يُفسر لماذا تخزن الغابات كميات أكبر من الكربون على مستوى العالم؟

إذا لم يكن الطلب على الخشب هو السبب فما الذى يُفسر لماذا ينمو مخزون الكربون فى الغابات العالمية – على الرغم من خسائر الكربون بسبب قطع الأشجار على نطاق واسع وإزالة الغابات المستمر من أجل الزراعة؟

والإجابة الأساسية هى تغير المناخ نفسه إذ تتسبب مستويات ثاني أكسيد الكربون المرتفعة فى الغلاف الجوى فى نمو الغابات بشكلٍ أسرع ويُساهم فى هذا التأثير ارتفاع درجات الحرارة فى المناطق الباردة وهو ما يَسمح للغابات بالنمو لفترة أطول من العام.

تُشير التقديرات اليوم إلى أن تغير المناخ يَتسبب فى امتصاص الغابات لما يَقرب من عشرة مليارات طن مترى إضافى من ثاني أكسيد الكربون سنويًا على الرغم أن هناك حالة من عدم اليقين بشأن الكمية التى يتم امتصاصها، وهذا يُمثل أكثر من ربع انبعاثات ثانى أكسيد الكربون العالمية فضلًا عن ذلك قَلصت العديد من بلدان نصف الكرة الشمالى اعتمادها على الغابات للحصول على الحطب والرعى.

كما أن هذه الدول قَلصت مساحات أراضيهم الزراعية بسبب مجموعة متنوعة من العوامل منها التحول فى الزراعة إلى المناطق الاستوائية حيث تتزايد إزالة الغابات جزئيًا بسبب استعانة الشمال العالمى بمصادر خارجية لإنتاج الغذاء واستبدال الخيول بالسيارات والجرارات مما أدى إلى تحرير مناطق كبيرة كانت مخصصة فى السابق لإطعام الخيول.

فى الختام مع تزايد الوعي بقضايا المناخ والبيئة وتغير عادات الاستهلاك أصبحت فرص جديدة متاحة لصناعة الغابات والبناء الخشبى لتطوير حلول خضراء وظيفية لتلبية احتياجات المستهلكين. الخشب مادة خام مُتعددة الاستخدامات وهو المادة الوحيدة المُتجددة في البناء.

إن تصنيع المنتجات والهياكل الخشبية يَستهلك قدرًا ضئيلًا من الطاقة مقارنةً بالمنتجات والهياكل المُماثلة المصنوعة من مواد أخرى. على عكس المواد الأخرى فإن أغلب الطاقة اللازمة لتصنيع المنتجات الخشبية تأتى من مصادر الطاقة المتجددة،

يُمكن للخشب أن يُقلل بشكلٍ كبير من البصمة الكربونية للبناء الجديد ومن بين جميع مواد البناء الرئيسية يُعد الخشب الأكثر ملاءمة للبيئة حيث يَستهلك أقل قدر من الطاقة ويُصدر أقل قدر من ثاني أكسيد الكربون. الخشب ليس سامًا ولا يطلق أبخرة كيميائية في المبنى، كما أنه آمن فى التعامل واللمس ويتقدم فى العمر بشكلٍ طبيعي ولا يتحلل إلى مواد ضارة بالبيئة.

ويواجه قطاع الأخشاب العالمى حاليًا تحديين مزدوجين يتمثلان فى تلبية الطلب المُتزايد على المنتجاتِ الخشبية عاليةِ الجودة والحد من التأثيرات السلبية المُحتملة على البيئة والصحة البشرية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى