بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالاتخدماتيزراعة

د ناهد الوحش تكتب: الإستراتيجيات المستدامة لتقليل استخدام الماء والطاقة في صناعة الألبان

باحث أول بقسم بحوث الألبان – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية- مركز البحوث الزراعية- مصر

تعد صناعة الألبان من الركائز الحيوية في قطاع الصناعات الغذائية إلا أنها من أكثر الصناعات استهلاكا للماء والطاقة، لا سيما في مراحل المعالجة الحرارية ومعالجة الخثرة وفصل الشرش و التنظيف والتبريد. ومع تزايد الضغوط التنظيمية وتغيرات المناخ وارتفاع تكاليف الموارد أصبح تحقيق الاستدامة البيئية أولوية قصوى أمام هذه الصناعة.

وفي هذا السياق لم يعد تقليل استهلاك الموارد خيارا تقنيا فحسب بل مطلبا استراتيجيا لضمان الكفاءة التشغيلية والتنافسية الاقتصادية.

شهد العقد الأخير تطورا ملحوظا في استخدام تقنيات متقدمة مثل أنظمة استرجاع الحرارة والفصل الغشائي والتحكم الذكي والطاقة المتجددة والتي ساهمت في تحسين كفاءة الإنتاج وتقليل البصمة الكربونية.

تهدف هذه المقالة إلى استعراض شامل لأهم الحلول المبتكرة لتقليل استهلاك الماء والطاقة في خطوط إنتاج منتجات الألبان مع التركيز على الجوانب التطبيقية والجدوى الاقتصادية ومدى توافقها مع معايير الجودة والسلامة الغذائية. ليس فقط لتوضيح الإمكانيات التقنية بل لتسليط الضوء على أهمية التحول نحو نموذج إنتاج أكثراستدامة وتكاملا مع أهداف التنمية المستدامة.

استراتيجيات تقليل استهلاك المياه

1- إعادة استخدام المياه ومعالجتها
تعد إعادة استخدام المياه داخل منشآت تصنيع الألبان من أكثر الوسائل فاعلية لتقليل استهلاك المياه العذبة. إذ يمكن استخدام المياه المعالجة الناتجة عن الشطف النهائي أو عمليات التبريد في عمليات ثانوية مثل الغسل الأولي أو التنظيف غير المباشر
• تستخدم تقنيات الفصل الغشائي مثل الترشيح الفائق (UF)، والترشيح النانوي (NF)، والتناضح العكسي (RO) بشكل واسع لاستعادة المياه من مياه الصرف الناتجة عن الألبان مما يسمح بإزالة المواد العضوية والأملاح والكائنات الدقيقة.
• يمكن دمج عمليات الأكسدة المتقدمة (AOPs) أو التعقيم بالأشعة فوق البنفسجية لزيادة أمان المياه المعاد استخدامها من الناحية الميكروبيولوجية.
فعلى سبيل المثال يمكن استخدام المياه المسترجعة من شطفات (أنظمة التنظيف في الموقع CIP) النهائية في عمليات الشطف الأولي للدورة التالية مما يؤدي إلى توفير مياه بنسبة تصل إلى 50 . % (Dorea & Bertrand, 2018

2 – تحسين أنظمة التنظيف في الموقع: Cleaning in Place (CIP)

وهي تقنية تستخدم في الصناعات الغذائية بما فيها صناعة الألبان لتنظيف المعدات والأنابيب داخل خطوط الإنتاج دون الحاجة إلى تفكيكها. يتم ذلك باستخدام محاليل تنظيف وتعقيم تدفع عبر النظام.
وتعد أنظمة CIP من أكثر العمليات استهلاكا للمياه والمواد المنظفة. وقد ظهرت عدة تقنيات مبتكرة في هذا المجال:
• أستخدام أنظمة CIP ذات الحجم المخفض مع تحسين أنماط تدفق المياه.
• استخدام أجهزة استشعار للكشف اللحظي عن نقاط نهاية الشطف مما يقلل من الاستهلاك الزائد للمياه.
• فصل مياه الشطف بحيث يمكن إعادة استخدام الأجزاء الأقل تلوثًا منها.
• استخدام منظفات إنزيمية فعالة عند درجات حرارة منخفضة ودورات زمنية أقصر.
• جمع مياه الشطف بشكل منفصل لإعادة الاستخدام الانتقائي بحيث يمكن إعادة استخدام الأجزاء الأقل تلوثًا منها.
أظهر جونسون وسفينسون (2020) أن تحسين تسلسل عمليات التنظيف في المكان (CIP) باستخدام أجهزة الاستشعار في الوقت الفعلي أدى إلى تقليل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 30% دون التأثير على معايير النظافة.

3- تقنيات التنظيف الجاف والرغوي

في خطوط إنتاج الأجبان يستخدم التنظيف الجاف والتنظيف باستخدام الرغوة منخفضة المحتوى المائي بشكل متزايد في الحالات التي لا تستدعي إجراء تنظيف مائي كامل. تسهم هذه الأساليب في تقليل استهلاك المياه مع الحفاظ على السلامة الميكروبيولوجية لا سيما أثناء مراحل التنظيف البيني (المؤقت) .

 استراتيجيات تقليل استهلاك الطاقة

1 – أنظمة استرجاع الحرارة:
تتيح العمليات الحرارية مثل البسترة فرصا كبيرة لاستعادة الطاقة:
• تستخدم المبادلات الحرارية المتجددة لنقل الحرارة من الحليب المبستر إلى الحليب البارد الداخل ويمكنها استرجاع أكثر من 90% من الطاقة الحرارية.
• يمكن أيضا استرجاع الحرارة الضائعة من الضواغط والغلايات وأنظمة تبريد الشرش لاستخدامها في تسخين المياه أو الهواء.
أفاد Mistry and Hassan2019) ) أن تركيب مبادلات حرارية متعددة المراحل أدى إلى تقليل استهلاك الطاقة الحرارية بنسبة 25% في مصنع ألبان متوسط الحجم.
2- تقنيات التركيز الغشائي
يعد تركيز الحليب والشرش باستخدام المبخرات الحرارية من العمليات كثيفة استهلاك الطاقة إلا أن استخدام الأغشية يوفر بدائل أكثر كفاء:
• تمكن تقنيات التناضح العكسي (RO) والترشيح النانوي (NF) من إزالة ما يصل إلى 60% من الماء قبل دخول مرحلة التبخيرمما يقلل من الطلب على البخار.
• تمثل تقنية التناضح الأمامي (FO) خيارا ناشئا يوفر كفاءة عالية في إزالة المياه باستخدام طاقة أقل واحتمالية أقل للترسيب على الأغشية.
أثبتت الدراسات أن التركيز الأولي للحليب باستخدام RO أدى إلى تقليل استهلاك الطاقة في مرحلة التبخير التالية بنسبة 35–40%. .

3- دمج مصادر الطاقة المتجددة :

تسعى العديد من منشآت الألبان إلى الانتقال نحو استدامة الطاقة عبر دمج:
• الطاقة الشمسية الحرارية لتسخين المياه وتهيئة السوائل المعالجة. وقد أثبتت الدراسات أن أن أنظمة البسترة المدعومة بالطاقة الشمسية خفضت استهلاك وقود الغلايات بنسبة 18% في منشآت الألبان الصغيرة.
• الهضم الحيوي اللاهوائي لمخلفات الشرش والحمأة الناتجة عن محطات المعالجة لإنتاج غاز الميثان المستخدم في الغلايات. يتم إدخالها في وحدات هضم لاهوائي حيث تقوم الكائنات الدقيقة بتحليل هذه المواد العضوية وينتج عن ذلك غاز الميثان الذي يستخدم كوقود في الغلايات لتوليد الحرارة أو البخار وبالتالي يسهم في تقليل الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية.
• مضخات الحرارة والأنظمة الجيوحرارية لإعادة توزيع الحرارة منخفضة الجودة حتث تستخدم مضخات الحرارة والأنظمة الجيوحرارية في مصانع الألبان لاسترجاع وإعادة توزيع الحرارة منخفضة الجودة أي الحرارة المتولدة عند درجات حرارة منخفضة والتي لا تصلح مباشرة للمعالجة.

تعمل مضخات الحرارة على رفع درجة حرارة هذه المصادر لتستخدم مجددا في تسخين المياه أو العمليات الحرارية مما يقلل من استهلاك الطاقة. أما الأنظمة الجيوحرارية فتعتمد على حرارة باطن الأرض لتوفير التدفئة أو التبريد وتساهم في تعزيز كفاءة الطاقة وخفض الانبعاثات. تمثل هذه التقنيات حلولا فعّالة لاستدامة الطاقة في قطاع تصنيع الألبان.

4- الرقمنة وتحسين العمليات

–  الرصد الذكي والتحكم الآلي
مستشعرات إنترنت شياء Internet of Things Sensors
مستشعرات (IoT) هي أجهزة صغيرة تقيس متغيرات فيزيائية أو كيميائية (مثل درجة الحرارة، الرطوبة، الضغط ، التدفق استهلاك الطاقة، إلخ)، وتقوم بإرسال هذه البيانات تلقائيا عبر الإنترنت أو الشبكات المحلية إلى أنظمة مركزية لمعالجتها أو اتخاذ قرارات بناءا عليها.
يسهم استخدام مستشعرات إنترنت الأشياء (IoT) وتحليلات البيانات وأنظمة التحكم التنبؤية في مراقبة استهلاك الطاقة والمياه بشكل لحظي. وتوفر هذه الأنظمة:
• الاكتشاف المبكر للتسريبات أو مواطن القصور في الكفاءة.
• التحسين الديناميكي للعمليات بناءً على الطلب الفعلي.
• دمج مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) المتعلقة بالطاقة والمياه ضمن لوحات متابعة الإنتاج.
مؤشرات الأداء الرئيسية (Key Performance Indicators – KPIs) هي مقاييس رقمية تستخدم لتقييم أداء العمليات والأنظمة وفق أهداف محددة. وعندما نتحدث عن دمجها فنقصد إدخال هذه المؤشرات ضمن أنظمة المراقبة والتحكم أو لوحات القيادة الرقمية داخل المصنع.

تكامل العمليات و التصنيع المُرشد

تستخدم أدوات مثل تحليل العُقد الحرارية (PinchAnalysis) وتقييم دورة الحياة (LCA) لإعادة تصميم العمليات بهدف تحسين استهلاك المرافق.
كما تساعد أدوات التصنيع المرشد مثل رسم خريطة تدفق القيمة (Value Stream Mapping – VSM) في تحديد مواطن الهدر في استهلاك الطاقة والمياه على امتداد خط الإنتاج.
أظهر (Ramos & González 202) أن الاعتماد على نظام رقمي متكامل في مصنع ألبان أدى إلى تقليل استهلاك الطاقة بنسبة 12% واستهلاك المياه بنسبة 9%.

وختاما :

يمثل خفض استهلاك الماء والطاقة في تصنيع الحليب ومنتجات الأجبان تحديا استراتيجيا يتطلب تكاملا بين التقنيات الحديثة والممارسات التشغيلية الذكية. وقد أثبتت الابتكارات في مجالات استرجاع الحرارة والفصل الغشائي وإعادة استخدام المياه والتحكم الرقمي والطاقة المتجددة فعاليتها في تحسين الكفاءة وتقليل الأثر البيئي دون الإخلال بجودة المنتج أو سلامته. إن اعتماد نهج شامل يجمع بين الحلول التقنية والرقابة البيئية والتحسين المستمر بات ضرورة ملحة لضمان استدامة الصناعة وتوافقها مع متطلبات المستقبل.
ومن هنا، فإن تعزيز البحث والتطوير والاستثمار في التكنولوجيات النظيفة إلى جانب تبني سياسات تشغيلية مرنة ومبنية على البيانات يشكل حجر الأساس لانتقال قطاع الألبان نحو نموذج إنتاج أكثر كفاءة ومسؤولية بيئية واقتصادية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى