بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالاتزراعة

د سعد الباز يكتب: الاستفادة من مخلفات تصنيع الخضر والفاكهة

قسم تكنولوجيا الحاصلات البستانية – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية- مركز البحوث الزراعية- مصر

في عصرنا الحالي، حيث تتزايد التحديات البيئية والاقتصادية، أصبح البحث عن طرق مبتكرة ومستدامة للتعامل مع المخلفات الناتجة عن تصنيع الخضر والفاكهة أمرًا ضروريًا لا غنى عنه.

هذه المخلفات، التي كانت تُعد في السابق مجرد نفايات تُشكل عبئًا، أصبحت اليوم مصدرًا قيمًا للموارد التي يمكن إعادة استخدامها في مختلف الصناعات، فاتحةً آفاقًا جديدة للاستدامة والابتكار.

ما هي مخلفات تصنيع الخضر والفاكهة؟

يمكن تعريف مخلفات تصنيع الخضر والفاكهة بأنها المواد العضوية الصلبة أو السائلة المتبقية من عمليات تحضير ومعالجة الخضر والفاكهة للاستهلاك الآدمي أو الحيواني، والتي لم تعد ذات قيمة مباشرة للمنتج الرئيسي.

هذه المخلفات غالبًا ما تكون غنية بالعناصر الغذائية، والمركبات النشطة بيولوجيًا، والألياف، والتي يمكن استغلالها بطرق مبتكرة بدلًا من التخلص منها كنفايات. تشمل هذه المخلفات الأجزاء غير الصالحة للأكل، أو الزائدة عن الحاجة، أو التي تتلف أثناء المعالجة.

أهمية الفاقد من المحاصيل

تقدر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) أن حوالي ثلث الأغذية المنتجة عالميًا تُفقد أو تُهدر كل عام. جزء كبير من هذا الفاقد يأتي من قطاع الخضر والفاكهة، سواء على مستوى المزرعة، أثناء النقل والتخزين، أو في مراحل التصنيع.

أهم مخلفات المحاصيل الزراعية

تتنوع مخلفات تصنيع الخضر والفاكهة بشكل كبير حسب نوع المنتج وعملية التصنيع. إليك بعض الأمثلة الشائعة مع تقديرات لكمياتها:

قشور وبذور الفاكهة:

– قشور الحمضيات (برتقال، ليمون): تمثل حوالي 30-50% من الوزن الكلي للفاكهة، وهي غنية بالبكتين، الزيوت العطرية، والفلافونويدات.

– قشور التفاح: تشكل حوالي 10-15% من وزن التفاح، ومصدر جيد للألياف ومضادات الأكسدة.

– بذور العنب: تمثل حوالي 3-5% من وزن العنب، وهي مصدر غني بالبروانثوسيانيدينات (مضادات أكسدة قوية).

– قشور وبذور المانجو: يمكن أن تصل نسبتها إلى 30-60% من وزن الثمرة، وتحتوي على مركبات فينولية وأصباغ.

أوراق وسيقان الخضراوات:

– أوراق الجزر والبنجر والقرنبيط: غالبًا ما يتم التخلص منها رغم غناها بالفيتامينات والمعادن.

– سيقان البروكلي والقرنبيط: أجزاء كبيرة تُستبعد في العديد من عمليات التصنيع.

لب وعجائن الفاكهة والخضراوات بعد العصر والتقطيع:

– لب الفاكهة بعد عصر العصائر: مثل لب البرتقال أو الجزر، وهو غني بالألياف الغذائية والبكتين.

– مخلفات تقطيع وتجهيز الخضراوات: كالأطراف المقطوعة من الجزر أو البطاطس.

تقديرات عامة لكميات الفاقد من الخضر والفاكهة

تُنتج الصناعات الغذائية ملايين الأطنان من هذه المخلفات سنويًا. تُشير التقديرات إلى أن كمية مخلفات الخضر والفاكهة الناتجة عن عمليات التصنيع يمكن أن تتراوح بين 15% إلى 60% من الوزن الإجمالي للمادة الخام. على سبيل المثال، في صناعة عصير البرتقال، قد تصل نسبة المخلفات إلى 50-60% من وزن الفاكهة. هذه الأرقام الضخمة تُسلط الضوء على الفرصة الهائلة لاستغلال هذه “الموارد الثانوية” بدلاً من التخلص منها.

التحديات البيئية والاقتصادية للتخلص التقليدي من المخلفات

التخلص من هذه المخلفات في مدافن النفايات، وهو النهج التقليدي، يؤدي إلى عواقب سلبية عديدة:

  • تلوث بيئي: انبعاث غاز الميثان، وهو من الغازات الدفيئة القوية، نتيجة لتحلل المواد العضوية، مما يساهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري.
  • هدر للموارد: استهلاك المياه والطاقة والمواد الخام في إنتاج مواد يتم التخلص منها في النهاية.
  • خسائر اقتصادية: تكاليف باهظة للتخلص من النفايات وفقدان القيمة المحتملة لهذه المواد التي يمكن تحويلها إلى منتجات ذات قيمة مضافة.

مفهوم القيمة المضافة من تحويل«النفايات» إلى «موارد»

بدلًا من النظر إلى هذه المواد كـ “نفايات”، يجب أن نتبنى منظورًا جديدًا يراها كـ “موارد خام ثانوية” غنية بالمركبات الحيوية، الألياف، الفيتامينات، المعادن، ومضادات الأكسدة. الهدف هو استخلاص هذه المركبات ذات القيمة العالية واستخدامها في صناعات مختلفة، مما يحقق مبدأ الاقتصاد الدائري.

طرق الاستفادة من مخلفات الخضر والفاكهه

تتعدد طرق الاستفادة من مخلفات الخضر والفاكهة وتتطور باستمرار، وتشمل:

  1. الاستخلاص الحيوي للمركبات النشطة:

o        مضادات الأكسدة: يمكن استخدامها في صناعة الأغذية كمواد حافظة طبيعية، وفي الأدوية ومستحضرات التجميل لفوائدها الصحية ومكافحة الشيخوخة.

o        الألياف الغذائية: تُضاف إلى المنتجات الغذائية لتحسين القيمة الغذائية ودعم صحة الجهاز الهضمي.

o        الزيوت الأساسية والدهون: تستخدم في صناعة النكهات والعطور، وكذلك في إنتاج زيوت صالحة للأكل.

o        البكتين: يستخلص من قشور الحمضيات والتفاح ويستخدم على نطاق واسع في صناعة الأغذية كمادة مكثفة ومثبتة.

  1. إنتاج الوقود الحيوي والطاقة:

o        الغاز الحيوي (البيوجاز): يمكن إنتاجه من خلال الهضم اللاهوائي للمخلفات العضوية، ويستخدم لتوليد الكهرباء والحرارة.

o        الوقود الحيوي السائل (الإيثانول الحيوي): يُنتج من خلال عمليات التخمير، ويُعد بديلاً مستدامًا للوقود الأحفوري.

o        الكتلة الحيوية الصلبة: تُحول المخلفات إلى قوالب وقود صلبة يمكن استخدامها كمصدر للطاقة.

  1. إنتاج الأسمدة والمحسنات الزراعية:

o        الكمبوست (السماد العضوي): تُحول المخلفات إلى سماد عضوي غني بالمغذيات لتعزيز خصوبة التربة وتحسين جودتها.

o        مستخلصات النمو النباتي: تُستخلص مركبات طبيعية تعمل كمحفزات لنمو النباتات.

  1. استخدامات أخرى مبتكرة:

o        مواد تغليف قابلة للتحلل الحيوي: تساهم في تقليل الاعتماد على البلاستيك التقليدي.

o        أعلاف الحيوانات: تُضاف كمكملات علفية غنية بالألياف والمغذيات.

o        صبغات طبيعية: تستخدم في صناعة النسيج والأغذية كبدائل آمنة للصبغات الكيميائية.

o        تطوير مواد بناء مستدامة: أبحاث واعدة لاستخدام بعض المخلفات في مواد البناء.

التحديات والحلول: نحو مستقبل مستدام

على الرغم من الإمكانيات الهائلة، تواجه الاستفادة من مخلفات الخضر والفاكهة بعض التحديات:

  • التنوع الكبير في التركيب: يختلف التركيب الكيميائي للمخلفات باختلاف نوع الفاكهة أو الخضار وعملية التصنيع، مما يتطلب تقنيات معالجة متنوعة.
  • المحتوى المائي العالي: يؤدي المحتوى المائي المرتفع إلى زيادة تكاليف النقل والتخزين والمعالجة.
  • التلوث الميكروبيولوجي: سرعة تلف هذه المواد تتطلب معالجة سريعة وفعالة لمنع التلوث.
  • التكاليف الأولية للتقنيات: قد تكون تكاليف الاستثمار الأولي في التقنيات الحديثة مرتفعة.

للتغلب على هذه التحديات، نحتاج إلى:

  • البحث والتطوير المستمر: لتطوير تقنيات جديدة وأكثر كفاءة لاستخلاص المركبات القيمة.
  • التعاون بين الصناعة والبحث العلمي: لربط الأبحاث باحتياجات السوق وتسهيل نقل التكنولوجيا.
  • الاستثمار في البنية التحتية: لدعم جمع ومعالجة المخلفات على نطاق واسع.
  • التوعية والدعم الحكومي: لتشجيع الشركات والمزارعين على تبني ممارسات مستدامة.

بعض النماذج العالمية الناجحة

توجد بالفعل العديد من النماذج الناجحة التي تُظهر إمكانية تحقيق القيمة من هذه المخلفات:

  • في مصر: هناك جهود بحثية وصناعية لاستخلاص الألوان الطبيعية من مخلفات تصنيع الأغذية.
  • في إسبانيا: تُستخلص مضادات الأكسدة عالية القيمة من مخلفات قشور الزيتون والعنب الناتجة عن صناعة الزيوت والنبيذ.
  • في هولندا: توجد محطات متطورة لمعالجة المخلفات الزراعية لإنتاج الغاز الحيوي والسماد العضوي، مما يساهم في اقتصاد دائري متكامل.
  • في الولايات المتحدة: يُستخدم لب التفاح بعد العصر لإنتاج دقيق غني بالألياف ومضادات الأكسدة، يُضاف إلى المخبوزات والمنتجات الغذائية الأخرى.

كيفية التنمية المستدامة للحد من الفاقد أو الهدر في تصنيع الخضر والفاكهه؟

إن تبني نهج الاقتصاد الدائري في التعامل مع مخلفات تصنيع الخضر والفاكهة ليس مجرد خيار، بل أصبح ضرورة ملحة لتحقيق التنمية المستدامة. الاستفادة من هذه المخلفات لا يقلل فقط من التلوث البيئي ويخفف الضغط على مدافن النفايات، بل يخلق أيضًا فرصًا اقتصادية جديدة، ويوفر منتجات مبتكرة للسوق.

لتحقيق هذا التحول، يجب أن نعمل معًا كصناعيين، باحثين، مزارعين، مستهلكين، وواضعي سياسات. من خلال التعاون والابتكار، يمكننا تحويل تحدي المخلفات إلى فرصة لبناء مستقبل أكثر استدامة وازدهارًا للجميع.

 

زر الذهاب إلى الأعلى