بحوث ومنظماتتقاريرخدماتيزراعة

د عاطف عشيبة يكتب:مضادات الأكسدة في الصناعات الغذائية بين الفعالية الكيميائية والاعتبارات الصحية والبيئية

وكيل معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية – مركز البحوث الزراعية- مصر

تُعد مضادات الأكسدة مكوّنًا أساسيًا في أنظمة حفظ الأغذية نظرًا لدورها المحوري في الحد من التفاعلات الكيميائية والبيولوجية المسببة للفساد، وعلى وجه الخصوص تفاعلات الأكسدة.

تمثل الأكسدة أحد أبرز العوامل المسؤولة عن تدهور جودة المنتجات الغذائية، إذ تساهم في إحداث تغيرات غير مرغوبة في الصفات الحسية مثل اللون، والرائحة، والنكهة، إضافةً إلى تقليل القيمة الغذائية.

كما يمكن أن تؤدي هذه التفاعلات إلى تكوّن مركبات ضارة بالصحة، بما في ذلك البيروكسيدات وبعض المركبات ذات التأثيرات المسرطنة المحتملة، مما يبرز أهمية السيطرة عليها للحفاظ على سلامة الغذاء وجودته.

مع التزايد الملحوظ في وعي المستهلكين بالمخاطر الصحية المحتملة المرتبطة بالمضافات الصناعية، ازداد الاهتمام خلال السنوات الأخيرة بالبحث عن بدائل طبيعية تمتلك خصائص مضادة للأكسدة، نظرًا لاعتبارها أكثر أمانًا على الصحة وأقل تأثيرًا سلبيًا على البيئة.

وتُستخلص هذه المركبات في الغالب من مصادر نباتية متنوعة تشمل الأعشاب الطبية، والفواكه، والخضروات، والحبوب، كما يمكن الحصول عليها من المخلفات الزراعية، مما يوفر فرصة مزدوجة تتمثل في تعزيز مفهوم الاستدامة وتقليل الفاقد الغذائي. ويعكس هذا التوجه انسجامًا مع الاستراتيجيات العالمية الرامية إلى تطوير أنظمة غذائية أكثر أمانًا وصديقة للبيئة، مع تعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة.

يُعد استخدام مضادات الأكسدة الطبيعية في عمليات التصنيع الغذائي أحد أبرز الاتجاهات الحديثة في تكنولوجيا الأغذية، نظرًا لدورها الفعّال في إطالة فترة الصلاحية، والحفاظ على جودة المنتجات من حيث القيمة الغذائية والاستقرار الكيميائي والميكروبيولوجي، دون التأثير سلبًا على الخصائص الحسية مثل الطعم واللون والرائحة.

ويُعزز هذا التوجه رغبة المستهلكين المتزايدة في الحصول على منتجات غذائية أكثر أمانًا وصحة، مما يدفع قطاع الصناعات الغذائية إلى استثمار المركبات الطبيعية كبدائل للمضافات الاصطناعية، مع تحقيق التوازن بين السلامة والجودة والتسويق.

مفهوم الأكسدة وأثرها في الأغذية

تُعرف الأكسدة بأنها سلسلة من التفاعلات الكيميائية التي تحدث نتيجة تفاعل مكونات الغذاء، وبالأخص الدهون، مع الأكسجين سواء من الهواء الجوي أو من المصادر الداخلية في الغذاء.

ويؤدي هذا التفاعل إلى تكوين مركبات نشطة كيميائيًا، مثل الجذور الحرة (Free Radicals) والبيروكسيدات، التي تساهم في تسريع عملية الفساد الغذائي وتدهور الجودة.
ينتج عن الأكسدة مجموعة من التأثيرات السلبية على الخصائص الحسية والفيزيائية والكيميائية للأغذية، من أبرزها:

  • تزنخ الدهون وفقدان الطعم المميز للمنتج الغذائي.
  • تغير اللون، كما هو ملاحظ في لحوم الحيوانات ومنتجاتها عند التخزين.
  • انخفاض محتوى الفيتامينات الحساسة للأكسدة مثل فيتامين C وE، مما يقلل من القيمة الغذائية.
  • تكوّن مركبات ضارة قد ترتبط بآثار صحية سلبية طويلة الأمد، مثل الالتهابات المزمنة أو الأمراض المرتبطة بالإجهاد التأكسدي، ومنها أمراض القلب وبعض أنواع السرطان.

تعريف مضادات الأكسدة

تعرف مضادات الأكسدة على انها مركبات طبيعية أو صناعية تمتلك القدرة على تثبيط أو تأخير عمليات الأكسدة داخل الأغذية، وذلك من خلال إيقاف تفاعلات الشقوق الحرة (الجذور الحرة) أو تثبيط تكون المركبات المؤكسدة.

تعمل هذه المواد على حماية مكونات الغذاء الحساسة، مثل الدهون والفيتامينات، من التدهور، مما يساهم في الحفاظ على الجودة الغذائية والخصائص الحسية للمنتج خلال فترة التخزين والمعالجة.

كما تستخدم مضادات الأكسدة بشكل واسع في الصناعات الغذائية لإطالة فترة الصلاحية، وتقليل الفقد الغذائي، وضمان السلامة الغذائية، مع تزايد الاهتمام باستخدام المصادر الطبيعية منها، نظرًا لمزاياها الصحية والبيئية مقارنة بالمركبات الصناعية.

أمثلة على مضادات الأكسدة الصناعية واستخداماتها

تُستخدم عدة مركبات صناعية كمضادات أكسدة في الصناعات الغذائية، ويعد كل من BHA (Butylated Hydroxyanisole) و BHT (Butylated Hydroxytoluene) وTBHQ (Tertiary Butylhydroquinone) وPropyl Gallate   من بين الأكثر شيوعًا وفعالية.

بوتيل هيدروكسي أنيسول: (BHA )

هو مركب فينولي صناعي يُستخدم بشكل واسع كمضاد أكسدة لمنع تزنخ الدهون في المنتجات الغذائية. يتميز بقدرته على تثبيط الجذور الحرة، ويُستخدم في المنتجات التي تحتوي على دهون مثل الزيوت النباتية، رقائق البطاطس، واللحوم المصنعة.

بوتيل هيدروكسي تولوين (BHT)

يشبه BHA في البنية والوظيفة، وغالبًا ما يُستخدم معه لزيادة الفاعلية التآزرية. يمنع الأكسدة الذاتية للدهون، ويحافظ على نكهة الأغذية المعبأة لفترات طويلة. يُستخدم في الحبوب الجاهزة، السمن الصناعي، والمخبوزات.

ثلاثي بوتيل هيدروكينون  ( TBHQ)

يُعد من مضادات الأكسدة الفعالة للغاية، خاصةً في ثبات الزيوت النباتية والدهون غير المشبعة. يتميز بقدرته العالية على مقاومة درجات الحرارة المرتفعة، ما يجعله مناسبًا للأطعمة المقلية أو المعرضة للحرارة أثناء التصنيع، مثل رقائق البطاطس والوجبات الخفيفة.

بروبيل جالات (Propyl Gallate)

هو مشتق من حمض الجاليك، ويستخدم لمنع تأكسد الزيوت والدهون في المنتجات الغذائية. غالبًا ما يُستخدم بالاشتراك مع BHA وBHT لتعزيز الفاعلية، ويوجد في المارجرين واللحوم المصنعة وبعض المنتجات الدهنية الأخرى.

على الرغم من فاعليتها في إطالة عمر المنتجات وتحسين الثبات التأكسدي، إلا أن هذه المركبات محل جدل علمي بسبب بعض المخاوف المرتبطة بتأثيراتها الصحية المحتملة عند الاستهلاك المزمن أو بكميات كبيرة، مما دفع إلى تعزيز التوجه نحو استخدام مضادات الأكسدة الطبيعية في كثير من الصناعات.

أمثلة على مضادات الأكسدة الطبيعية

تُعد مضادات الأكسدة الطبيعية المستخلصة من المصادر النباتية من أهم المكونات الفعالة في الوقاية من الأكسدة، وتشمل مجموعة متنوعة من المركبات النشطة بيولوجيًا مثل الفينولات، الفلافونويدات، والكاروتينات، بالإضافة إلى بعض الفيتامينات ذات التأثير المضاد للأكسدة مثل فيتامين A وفيتامين E وفيتامين C. وتساهم هذه المركبات في حماية الأغذية من التدهور التأكسدي، فضلًا عن دورها الصحي في تعزيز الجهاز المناعي والوقاية من الأمراض المزمنة.

الفرق بين مضادات الأكسدة الطبيعية والصناعية

تُظهر مضادات الأكسدة الطبيعية والصناعية تباينًا جوهريًا في خصائصها ومصادرها وآثارها الصحية. فمن حيث المصدر، يتم الحصول على مضادات الأكسدة الطبيعية من مصادر حيوية متنوعة مثل الفواكه، والخضروات، والأعشاب، والبذور، والزيوت النباتية.

بينما تُنتج مضادات الأكسدة الصناعية عبر عمليات تركيب كيميائي موجهة في المختبرات. أما من حيث السلامة الصحية، فإن المركبات الطبيعية غالبًا ما تُصنف على أنها أكثر أمانًا وتحظى بقبول أكبر من المستهلكين، في حين ارتبطت بعض المركبات الصناعية بمخاطر صحية محتملة عند الإفراط في الاستهلاك أو الاستخدام طويل الأمد.

وفيما يتعلق بالاستقرار الكيميائي والفيزيائي، فإن العديد من مضادات الأكسدة الصناعية تُظهر ثباتًا أعلى أثناء عمليات التصنيع والتخزين، بينما قد تتأثر مضادات الأكسدة الطبيعية بعوامل مثل الحرارة، والضوء، والأكسجين، مما يحد من فعاليتها بمرور الوقت.

ومن منظور التكلفة والإنتاج، فإن إنتاج المركبات الصناعية يتميز بانخفاض تكلفته وسهولة تصنيعه على نطاق واسع، في حين يتطلب الحصول على المركبات الطبيعية عمليات استخلاص وتنقية معقدة نسبيًا، مما يرفع من تكلفتها.

وعلى الصعيد العالمي، يُلاحظ اتجاه متنامٍ نحو استخدام مضادات الأكسدة الطبيعية مدفوعًا بزيادة الوعي الصحي والطلب على المنتجات العضوية والنظيفة، مقابل تراجع تدريجي في الاعتماد على بعض المضادات الصناعية نتيجة القيود التشريعية وتغير تفضيلات المستهلكين.

المبررات العلمية والتطبيقية لاستخدام مضادات الأكسدة ذات المصادر الطبيعية

في ظل التوجه العالمي نحو تقليل الاعتماد على المواد المضافة الصناعية في الأغذية، برزت مضادات الأكسدة ذات المصادر الطبيعية كخيار استراتيجي يجمع بين الفعالية والسلامة والاستدامة. وقد شجعت العديد من الدراسات العلمية والاتجاهات الصناعية الحديثة على تبني هذه المركبات في مختلف مجالات تصنيع الغذاء، مدفوعة باعتبارات صحية وبيئية واقتصادية.

تستند المبررات العلمية والتطبيقية لاعتماد مضادات الأكسدة الطبيعية في الصناعات الغذائية إلى عدة اعتبارات مترابطة تشمل الجوانب الصحية والتغذوية، والكيميائية، والبيئية، والتجارية.

فمن الناحية الصحية، تتميز المركبات الطبيعية مثل البوليفينولات، والكاروتينات، والتوكوفيرولات بقدرتها على تثبيط الجذور الحرة ومقاومة الإجهاد التأكسدي دون إحداث تأثيرات سمية ملحوظة.

كما أظهرت الدراسات أن بعض مضادات الأكسدة الطبيعية تمتلك تأثيرات مضادة للالتهابات، مما يساعد على تقليل مخاطر الأمراض المزمنة المرتبطة بالإجهاد التأكسدي، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، والسكري من النوع الثاني، وبعض أنواع السرطان.

كما أن مركبات مثل الكيرسيتين والليكوبين ارتبطت بتحسين صحة الجهاز المناعي، ودعم وظائف الكبد، وتنظيم مستويات الكوليسترول في الدم مما يجعلها خيارًا آمنًا نسبيًا مقارنةً ببعض المركبات الصناعية التي قد ترتبط بمخاطر صحية عند الإفراط في الاستهلاك.

ومن الناحية التغذوية، فإن إدماج هذه المركبات في المنتجات الغذائية يسهم في رفع قيمتها الوظيفية، مما يجعل الغذاء لا يقتصر على تلبية الاحتياجات الأساسية من الطاقة والمغذيات، بل يتحول إلى غذاء وظيفي يمكن أن يدعم الصحة ويقي من الأمراض. ويكتسب هذا الجانب أهمية خاصة في ظل الاتجاه العالمي نحو الأغذية الصحية والوقائية، حيث يسعى المستهلكون إلى منتجات تجمع بين الطعم الجيد والفائدة الصحية.

أما من الناحية الكيميائية والتكنولوجية، فإن مضادات الأكسدة الطبيعية تمتلك قدرة فعالة على إبطاء أو منع تفاعلات الأكسدة في الأغذية، وبالتالي الحفاظ على الجودة الحسية مثل النكهة، واللون، والقوام لفترات أطول. كما يمكن دمجها في أنظمة تغليف نشطة أو استخدام تقنيات تثبيت مثل التغليف النانوي لزيادة ثباتها أثناء المعالجة والتخزين.

من منظور الاستدامة البيئية، فإن الحصول على مضادات الأكسدة من مصادر طبيعية مثل النباتات، والمخلفات الزراعية، والأعشاب يساهم في تقليل الاعتماد على المركبات الكيميائية المصنعة والحد من الأثر البيئي لعمليات الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يدعم هذا الاتجاه استغلال الموارد المحلية وتقليل الفاقد الزراعي.

ومن الناحية التجارية والتسويقية، فإن الطلب المتزايد على المنتجات “الطبيعية” والخالية من الإضافات الصناعية” يمنح الشركات التي تستخدم مضادات الأكسدة الطبيعية ميزة تنافسية، خاصة في الأسواق العالمية التي تفرض قيودًا متزايدة على بعض المركبات الصناعية. كما أن هذا الاتجاه يعزز ثقة المستهلك ويساهم في رفع القيمة المضافة للمنتج.

 

زر الذهاب إلى الأعلى