د منتصر الحسناوي يكتب : المُلقّحات في قلب المعادلة البيئية

ثمّة ما لا يُرى في مشهد الزراعة، وما لا يُدوَّن في جداول الإنتاج، إنّما هو حاضر في صمتٍ مُنظّم، يُمسك بخيطٍ خفيّ بين النبتة وثمرتها” إنّه النحل” الكائن الذي لا يُقاس بحجمه، إنّما بما يفعله لغيره.
في السنوات الأخيرة، بات النحل في مقدّمة النقاشات البيئية العالمية، لا بوصفه منتجاً للعسل، إنّما باعتباره مؤشّراً بيئياً حساساً، يتغيّر حين تختلّ العلاقة بين الطبيعة والإنسان.
في أوروبا، حولت هذه التأملات إلى مبادرة متكاملة، إذ أطلقت المفوضية الأوروبية عام 2018 مبادرة حملت اسم “الاتفاق الأوروبي من أجل الملقّحات”، وجرى تحديثها عام 2023 ضمن استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنوع البيولوجي 2030 ، لتصبح خريطة عمل تجاه كائناتٍ ظلّت تؤدي دورها طيلة قرون دون أن يُلتفت إلى هشاشتها.
حدّدت المبادرة ثلاث أولويات أساسية:
أولها، تحسين المعرفة من خلال رصد دقيق لأعداد الملقّحات البرية، وأنماط هجرتها، وتراجع مواسم نشاطها. وثانيها، مواجهة التهديدات عبر تقليل استخدام المبيدات الكيميائية، وتعزيز الزراعة العضوية، وتأهيل الموائل الطبيعية للنحل.
أمّا ثالثها، فهو تحفيز المجتمع بأكمله”من المزارعين إلى طلبة المدارس” على اتخاذ إجراءات تُعيد للنحل دوره دون عوائق.
الفكرة اساساً لضمان أن يبقى النحل والملقحات البرية فاعلة في دورة الحياة، من الغابات المفتوحة إلى أطراف المدن.
فالأرقام كشفت أنّ أكثر من ٧٥٪ من المحاصيل الأوروبية تعتمد بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، على التلقيح الطبيعي، وأنّ تراجع الملقّحات لا يعني خسارة العسل فقط إنّما خسارة المحصول، والنكهة، والتنوّع.
الدرس الأوروبي لم يكن في حجم التمويل، إنّما في وضوح الرؤية. فما وُصف سابقاً بأنه مشكلة “بيئية” اصبح يُقرأ كأزمة غذائية وصحية وتخطيطية في آنٍ واحد.
ومن حماية النحل، بدأت مفاهيم جديدة تتسلل إلى السياسات الزراعية، كإدخال النباتات المزهرة في تخطيط المدن، وإنشاء ممرات بيئية تربط بين المناطق الزراعية والغابات.
في عالمنا العربي، حيث تتسارع المتغيّرات المناخية وتُستنزف التربة، يظلّ النحل جزءاً من المشهد الغائب عن الحسابات، غير أنّ التجربة الأوروبية تفتح باباً للمراجعة.
فالنحل لا يطلب سوى بيئة مستقرة، ومراعٍ مُزهرة، وابتعاد عن المواد القاتلة.
وما من منطقة أكثر استعداداً لعودة الملقّحات من مناطقنا التي كانت، يوماً، جنّات خضراء.
في تلك المبادرة، يتمثل النحل بصفر حجمه ليبدو حارساً للتوازن البيئي، ومفتاحاً لفهم العلاقة بين الإنتاج والحياة، وما يُثمره من عسل، ليس سوى أثر جانبي لحضوره العميق في دورة الطبيعة.