حوارات و مقالات

د. علي اسماعيل يكتب : تطور الزراعة المصرية من حضارة النيل إلى الزراعة الذكية والمستدامة

تمثل الزراعة المصرية إحدى أقدم وأهم النظم الزراعية في العالم. فقد ارتبطت منذ نشأتها بحضارة وادي النيل، وشكّلت العمود الفقري للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. مرّت الزراعة المصرية بمراحل متعددة، بدءًا من الاعتماد على الفيضان في مصر الفرعونية، مرورًا بمشروعات الري في العصر الحديث وإنشاء السد العالي، وصولًا إلى التوجهات الحديثة في عام 2025 نحو الزراعة الذكية والمستدامة.

يهدف هذا المقال إلى تحليل تطور الزراعة المصرية عبر العصور مع التركيز على التحديات المستقبلية. وتشكل الزراعة المصرية تاريخًا طويلًا من التطور والتحولات، حيث ارتبطت بشكل وثيق بمجرى نهر النيل وسياسات الحكم المتعاقبة. منذ عهد محمد علي وحتى الآن، مرت الزراعة بمراحل مفصلية أسهمت في تشكيل هويتها الحالية. نستعرض باايجاز هذه المراحل الزمنية التي تمثلت في :

الزراعة في مصر القديمة

لعبت الزراعة دورًا محوريًا في تكوين الحضارة المصرية القديمة، حيث ارتبطت دورة الحياة بالفيضان السنوي لنهر النيل .فقد اعتمد المصريون القدماء على الطمي المتجدد لتخصيب التربة، وأقاموا قنوات ري وسدودًا بدائية لتنظيم المياه. كما ابتكروا الشادوف والساقية كأدوات للري، وركزوا على محاصيل أساسية مثل القمح والشعير والكتان (Butzer, 1976). كانت الزراعة في ذلك العصر ليست فقط مصدرًا للغذاء، بل أساسًا للاقتصاد والدين والسياسة.

الزراعة في العصور اليونانية والرومانية والإسلامية

شهدت الزراعة المصرية تحولات مهمة خلال العصور اليونانية والرومانية، حيث طُورت أنظمة ري أكثر انتظامًا، وتم إدخال بعض المحاصيل الجديدة.

أما في العصور الإسلامية، فقد توسعت مشروعات شق الترع الكبرى مثل ترعة الإسكندرية -) الخليج المصري (وأدخلت محاصيل جديدة مثل القطن وقصب السكر، كما ازدهرت علوم الري والحساب الفلاحي (Al-Nuwairi, 2004).

الزراعة في العصر الحديث (القرن 19 – منتصف القرن 20).

مع دخول الحملة الفرنسية ثم محمد علي باشا، شهدت الزراعة المصرية ثورة في نظم الإدارة والري. فقد أعيد تنظيم حيازة الأراضي، وأدخلت محاصيل نقدية مثل القطن طويل التيلة الذي أصبح العمود الفقري للاقتصاد المصري (Owen, 1969).

كما أنشئت القناطر الخيرية (1861) لتخزين المياه وتنظيمها، وهو ما اعتبر خطوة مبكرة نحو التحكم الدائم في النيل وشهدت الزراعة المصرية في عهد محمد علي باشا (1805-1848) تحولاً جذريًا من نظام الزراعة الحوضية الذي كان يعتمد على فيضان النيل إلى نظام الري الدائم. كان الهدف الأساسي هو تحديث الدولة وتأمين مصادر دخل ثابتة. قام محمد علي بفرض نظام الاحتكار على الزراعة، حيث أصبحت الدولة هي المالك الحقيقي للأرض، بينما عمل الفلاحون كمنتجين يلتزمون بتوريد المحاصيل للحكومة بسعر محدد.

ومن أبرز ملامح هذه الفترة إدخال محاصيل نقدية جديدة: ركز محمد علي على زراعة القطن طويل التيلة الذي أصبح محصولًا استراتيجيًا ومصدرًا رئيسيًا للتصدير، كما شجع زراعة قصب السكر والتوت لإنتاج الحرير و مشروعات الري الكبرى: قام بحفر العديد من الترع مثل ترعة المحمودية، وبدأ في بناء القناطر الخيرية لتنظيم المياه وتوسيع الرقعة الزراعية.

كما تم إعادة توزيع الأراضي: صادر محمد علي أراضي الأوقاف والمماليك وأعاد توزيعها بما يضمن سيطرة الدولة.

ثورة يوليو والسد العالي: التوسع الأفقي والرأسي السد العالي والتحول في بنية الزراعة (1960–1970)

بعد ثورة يوليو 1952، شهدت الزراعة تحولاً آخر من خلال قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد توزيع ملكية الأراضي الزراعية، بهدف القضاء على الإقطاع وتمليك صغار الفلاحين. كان هذا القانون بداية لمرحلة جديدة من التخطيط الزراعي. كان مشروع السد العالي في أسوان نقطة تحول كبرى، حيث أدى بناؤه إلى:

  1. التحكم الكامل في فيضان النيل.
  2. التوسع في الزراعة الدائمة بدلًا من الزراعة الموسمية.
  3. مضاعفة المساحات المزروعة على مدار العام.
  4. إدخال الكهرباء التي ساعدت في تشغيل طلمبات الري.

ان التحول الكامل إلى الري الدائم: سمح السد بتخزين مياه الفيضان وتوفيرها على مدار العام، مما أنهى الاعتماد على الفيضان السنوي، وزيادة الرقعة الزراعية: ساهم في استصلاح ملايين الأفدنة الجديدة، وزيادة المساحة الزراعية من 5.5 إلى 7.9 مليون فدان.

كما كان له عظيم الاثر في حماية البلاد من الفيضانات والجفاف: وفر السد العالي حماية لمصر من مخاطر الفيضانات المدمرة، وأمن المياه في سنوات الجفاف، غير أن السد العالي حمل أيضًا تحديات بيئية مثل تراجع خصوبة التربة لاعتمادها على الأسمدة الكيماوية بدلًا من الطمي الطبيعي، وزيادة ملوحة الأراضي في بعض المناطق (Waterbury, 1979).
كما شهدت هذه الفترة إطلاق مشروعات استصلاح أراضي واسعة النطاق في الصحراء الغربية والشرقية، بهدف التوسع خارج وادي النيل الضيق.

الزراعة في العصر الحديث: تحديات وحلول

تواجه الزراعة المصرية في العصر الحالي العديد من التحديات، أبرزها محدودية الموارد المائية، وتزايد الزحف العمراني على الأراضي الزراعية، والتغيرات المناخية، ومع ذلك، هناك جهود حثيثة لمواجهة هذه التحديات من خلال: المشروعات القومية الكبرى: مثل مشروع الدلتا الجديدة الذي يستهدف استصلاح ملايين الأفدنة، ومشروعات أخرى في شمال ووسط سيناء وتوشكي وشرق العوينات وغيرها.

بالإضافة الي التوسع في الري الحديث حيث ان التوسع في استخدام أنظمة الري الذكية مثل الري بالتنقيط والرش لترشيد استهلاك المياه.

كما ان الزراعة الحديثة تعتمد علي التكنولوجيا الزراعية و استخدام التقنيات الحديثة في الزراعة الدقيقة لتحسين إدارة المحاصيل ومكافحة الآفات مستخدمة اساليب البحث العلمي بهدف تطوير سلالات جديدة من المحاصيل تتكيف مع التغيرات المناخية وتستهلك كميات أقل من المياه.

التحديات الراهنة للزراعة 2025 وآفاق المستقبل

رغم التقدم الكبير، تواجه الزراعة المصرية تحديات خطيرة وهي :

  • محدودية الموارد المائية (نصيب الفرد أقل من 550 م³/سنة).
  • تأثير التغيرات المناخية على الإنتاجية وجودة المحاصيل.
  • تدهور بعض الأراضي نتيجة الملوحة والتصحر.

وتسعى مصر بحلول 2030–2050 إلى:

  • ترشيد استخدام المياه عبر التوسع في الري الحديث.
  • تطوير الزراعة الذكية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بعد.
  • عزيز الأمن الغذائي عبر التوسع في محاصيل استراتيجية مثل القمح والذرة الصفراء.
  • زيادة الصادرات الزراعية لتصبح أحد أعمدة الاقتصاد الوطني.

الاستراتيجيات الحالية التي تسهم في نطوير منظومة الزراعة

استراتيجية مصر المائية 2050: ترشيد استهلاك المياه، إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، تحلية مياه البحر.
المشروعات القومية لاستصلاح الاراضي : توشكي وشرق العوينات ومشروع الدلتا الجديدة – مستقبل مصر – المليون ونصف فدان.

الزراعة الذكية : استخدام الحساسات وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي لمتابعة الري والإنتاج.

الطاقة المتجددة: التوسع في استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح كاهم مصادر الطاقة المتجددة .

إن تطور الزراعة المصرية يعكس تفاعل الإنسان مع بيئته عبر آلاف السنين. لقد شكل السد العالي نقطة تحول كبرى في القرن العشرين، بينما يمثل عام 2025 بداية عصر جديد للزراعة الذكية والمستدامة. ولا يزال البحث العلمي وإدارة الموارد المائية يمثلان الركيزة الأساسية لمستقبل الزراعة المصرية

ان التنمية الحقيقية التي تتبناها الدولة المصرية في استراتيجية 2030 كفيله بأحداث نقله نوعيه في شتي مجالات الحياه المصرية وبناء قاعده تكنولوجيه وعلميه تساعد في النهوض بالدولة المصرية وتطويرها في سنوات معدودة بشرط الالتزام بها وتأهيل الشباب للعمل في المشروعات الصغيرة ومتناهيه الصغر في الانشطة الزراعية التي يمكن ان تنشئ قاعدة صناعيه مصريه متعددة المدخلات مع توفير التدريب العلمي والعملي وتغير المناهج بالجامعات والمدارس الثانوية الفنية لأعداد الطلبة والدارسين لمتطلبات سوق العمل واحتياجاته الفنية.

ولو عادت الدولة لتبنيها انشاء سلسله مصانع انتاجيه تستوعب جزء من النشاط البشري وتضيف قدرات جديده للاقتصاد القومي وتطوير واصلاح المصانع القديمة وهيكلتها وخصخصة اداراتها وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب بجانب تسهيل اداء القطاع الخاص الانتاجي وتشجيعه وتوفير حوافز انتاجيه جديده تساعد علي قيام مجتمع زراعي صناعي وطني يدعم الاقتصاد القومي ويحسن ميزان المدفوعات المصري ومنها الصناعات القائمة علي الزراعة كالغزل والنسيج والتصنع الغذائي للخضر والفاكهة ومنتجات الالبان والزيوت والسكر وغيرها.

ولا ننسي ان التنمية الزراعية وتطوير الزراعة المصرية اصبح مطلب قومي واستراتيجي لسد الفجوة الغذائية من المحاصيل الاستراتيجية التي قد تكون الداعم الرئيسي للصناعة المصرية في توفير احتياجاتها من المواد الخام اللازمة لها والتي تلبي حاجه السكان وتوفر جزء من الصادرات المصرية التي تساعد في نمو الدخل القومي وزياده حصيلة العملة الصعبة .

المراجع

Butzer, K. W. (1976). Early Hydraulic Civilization in Egypt. University of Chicago Press.

Owen, R. (1969). Cotton and the Egyptian Economy, 1820–1914. Oxford University Press.

Waterbury, J. (1979). Hydropolitics of the Nile Valley. Syracuse University Press.

Al-Nuwairi, A. (2004). Nihayat al-Arab fi Funun al-Adab. Dar al-Kutub al-Ilmiyya.

Ministry of Agriculture and Land Reclamation (Egypt). (2023). Annual Agricultural Report. Cairo.

 

زر الذهاب إلى الأعلى