بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالاتخدماتي

د. فوزي العيسوي يكتب: البصمة الكربونية تكشف الوجه الآخر لأزمة الأسمدة في مصر

استاذ بمركز بحوث الصحراء- استشاري البصمة الكربونية والاستدامة البيئية – مصر

تمثل قضية الأسمدة في مصر نموذجا حيا لتشابك العوامل الاقتصادية والبيئية والسياسية في آن واحد. فعلى الرغم من أن الهدف المعلن هو دعم الفلاح المصري وتخفيف أعبائه، إلا أن الواقع يعكس خللًا عميقًا في المنظومة. فالمخصصات الكبيرة من الأسمدة المدعمة لا تصل إلا إلى أقل من 10% من الفلاحين، بينما تتحول الحصة الأكبر إلى قنوات تسريب عبر التعاونيات والجمعيات الزراعية لتصب في النهاية في جيوب المنتفعين (FAO, 2017).

ومع ارتفاع تكلفة إنتاج الطن إلى نحو 10 آلاف جنيه، مقابل توريده لوزارة الزراعة بسعر مدعوم يقارب 4.5 آلاف جنيه أصبح الفارق عبئًا على الدولة، في حين يعاني الفلاح من أسعار السوق الحرة.

هذه المفارقة دفعت الحكومة إلى مراجعة سياساتها بتقليص حصة وزارة الزراعة من الأسمدة المدعمة إلى 37% بدلًا من 55%، وزيادة حصة التصدير إلى الأسواق العالمية، بحثًا عن عائد أكبر من النقد الأجنبي خاصة في ظل ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي عالميًا (World Bank, 2022).

لكن المسألة تتجاوز الاقتصاد إلى البيئة والمناخ.

فالأسمدة الأزوتية تحديدا تعد من أكبر مصادر انبعاثات أكسيد النيتروز (N₂O) وهو غاز ذو قدرة احتباس حراري تفوق ثاني أكسيد الكربون بـ 298 مرة (IPCC, 2021).

ومع تزايد الرقابة العالمية على البصمة الكربونية للمنتجات الزراعية، ودخول آلية الحدود الكربونية الأوروبية (CBAM) حيز التنفيذ بداية من يناير 2026 فإن استمرار الاعتماد المفرط على الأسمدة الأزوتية لن يضر فقط بالمزارع المصري، بل سيضع الصادرات الزراعية المصرية تحت ضغوط ومعايير صارمة قد تحد من قدرتها التنافسية (European Commission, 2023).

نحو حلول أكثر استدامة

1. إعادة رسم الخريطة السمادية: مراجعة علمية شاملة يقودها مركز البحوث الزراعية لتحديد نوعية وكميات الأسمدة المناسبة لكل نوع تربة، خاصة في الأراضي الجديدة بدل الاعتماد الأعمى على اليوريا والنترات (Elbasiouny et al., 2020).

2. التوسع في الأسمدة الحيوية والعضوية: تشجيع إنتاج واستخدام بدائل صديقة للبيئة تقلل من الانبعاثات وتعيد للتربة خصوبتها الطبيعية (Singh et al., 2022).

3. التكامل بين البحث العلمي والسياسات: تمكين الجامعات والمراكز البحثية من تقديم توصيات عملية تترجم مباشرة إلى خطط وزارة الزراعة (OECD, 2019).

4. ترشيد الدعم وتوجيهه مباشرة للفلاح: استخدام نظم رقمية (كالتكويد الزراعي) لضمان وصول الدعم لمستحقيه (FAO, 2021).

5. تعزيز كفاءة استخدام الأسمدة: عبر تقنيات الري الحديث والزراعة الذكية مما يقلل الفاقد ويزيد من الإنتاجية الزراعية كما ونوعا (Godfray et al., 2018).

وفي الختام يمكننا القول بأن الأزمة الحالية في منظومة الأسمدة ليست مجرد قضية دعم أو تسعير بل هي معركة بين الفساد والاستدامة وبين مصالح ضيقة وحق الفلاح والمجتمع في الأمن الغذائي. وإذا ما نجحت مصر في تحويل هذه التحديات إلى فرصة لإصلاح سياساتها الزراعية والبيئية فإنها ستضع نفسها على مسار مستدام يوازن بين تعزيز الإنتاج المحلي، تقليص البصمة الكربونية وحماية الفلاح وصولًا إلى تحقيق الأمن الغذائي المنشود.

أهم المراجع :

Elbasiouny, H., et al. (2020). Fertilizer use efficiency in Egyptian soils: challenges and opportunities. Egyptian Journal of Soil Science.

European Commission (2023). Carbon Border Adjustment Mechanism (CBAM). Brussels.

FAO (2017). The future of food and agriculture: Trends and challenges. Rome.

FAO (2021). Digital agriculture: Case studies and lessons from Egypt. Rome.

Godfray, H. C. J., et al. (2018). Food security: The challenge of feeding 9 billion people. Science, 327(5967), 812–818.

IPCC (2021). Climate Change 2021: The Physical Science Basis. Geneva.

OECD (2019). Innovation, productivity and sustainability in food and agriculture. Paris.

Singh, R., et al. (2022). Biofertilizers: Sustainable approach for improving soil fertility and crop productivity. Journal of Cleaner Production.

World Bank (2022). Commodity Markets Outlook. Washington, D.C.

 

زر الذهاب إلى الأعلى