د عاطف عشيبة: مضادات الأكسدة الطبيعية بين المستجدات البحثية والتحديات والآفاق المستقبلية

وكيل معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية- مركز البحوث الزراعية- مصر
خلال العقود الأخيرة زاد الاهتمام بمضادات الأكسدة الطبيعية لدورها المهم في الحفاظ على جودة الأغذية وحماية صحة الإنسان، خاصة بعد ثبوت المخاطر المرتبطة بالمركبات الصناعية. ولهذا اتجهت الأبحاث إلى البحث عن بدائل آمنة من مصادر طبيعية مثل النباتات الطبية والأعشاب والفواكه والخضروات وحتى المخلفات الزراعية. ومؤخرًا، ساعد التقدم العلمي والتكنولوجي على ابتكار طرق جديدة للاستفادة من هذه المركبات، ليس فقط للوقاية من الأمراض المزمنة، بل أيضًا لتوسيع استخدامها في الصناعات الغذائية والصيدلانية، مما جعلها عنصرًا واعدًا وذا قيمة متزايدة في الأغذية والمنتجات الصحية.
المستجدات البحثية الحديثة
1- اكتشاف مصادر جديدة لمضادات الأكسدة
تتجه الأبحاث الحديثة إلى البحث عن مصادر غير تقليدية وغنية بمضادات الأكسدة، مثل قشور الفواكه والبذور التي عادة ما يتم التخلص منها، بالإضافة إلى الأعشاب البحرية والنباتات البرية. هذا التوجه لا يهدف فقط إلى اكتشاف مركبات طبيعية فعالة مثل الفينولات والفلافونويدات والكاروتينات، بل أيضًا إلى تقليل الهدر الزراعي وتحويل المخلفات إلى منتجات ذات قيمة غذائية وصحية عالية.
2- تقنيات استخلاص صديقة للبيئة
من أهم التطورات البحثية اعتماد طرق حديثة لاستخلاص مضادات الأكسدة بطريقة أكثر أمانًا وصداقة للبيئة. وتشمل هذه الطرق الاستخلاص باستخدام الموجات فوق الصوتية أو الميكروويف أو السوائل فوق الحرجة. تمتاز هذه الأساليب بقدرتها على تقليل استخدام المذيبات الكيميائية والحفاظ على النشاط الحيوي للمركبات المستخلصة، مما يجعلها أكثر ملائمة للصناعات الغذائية والدوائية.
3- تطبيقات النانو في حفظ مضادات الأكسدة
من الاتجاهات الواعدة أيضًا استخدام تقنية النانو لتغليف مضادات الأكسدة في جسيمات دقيقة جدًا. يتيح ذلك حمايتها من التأثيرات السلبية مثل الحرارة أو الضوء، كما يزيد من قدرتها على الذوبان والامتصاص داخل الجسم. وبهذا تصبح هذه المركبات أكثر فاعلية عند إدخالها في الأغذية أو المستحضرات الطبية.
4- فهم الآليات الجزيئية لعمل مضادات الأكسدة
تركز الأبحاث الحديثة على دراسة كيفية عمل مضادات الأكسدة على المستوى الجزيئي. فهي لا تعمل فقط على تثبيط الشقوق الحرة، بل قد تؤثر أيضًا على مسارات خلوية مرتبطة بالالتهابات والأمراض المزمنة. هذا الفهم العميق يساعد الباحثين في توجيه استخدامها بشكل أدق، سواء في الغذاء كمواد وظيفية أو في الدواء كعوامل وقائية.
5- تطوير الأغذية الوظيفية والمكملات الغذائية
تتمثل إحدى أهم التطبيقات الحديثة في دمج مضادات الأكسدة الطبيعية داخل منتجات غذائية وصحية جديدة. ومن أبرز الأمثلة المشروبات المدعمة بالمركبات النباتية، والزبادي الغني بالعناصر الوظيفية، والوجبات الخفيفة الصحية. هذه المنتجات لا تقتصر على تغذية الجسم فحسب، بل تهدف إلى تعزيز الصحة العامة والوقاية من الأمراض المرتبطة بالإجهاد التأكسدي.
6- الدمج مع استراتيجيات حفظ الأغذية الأخرى
لم يقتصر دور مضادات الأكسدة الطبيعية على إضافتها منفردة، بل يجري حاليًا دمجها مع تقنيات حفظ أخرى مثل التعبئة النشطة أو استخدام مضادات الميكروبات الطبيعية. هذا التكامل يساعد على إطالة فترة صلاحية الأغذية وتقليل الاعتماد على المواد الكيميائية الصناعية، وهو ما يعزز ثقة المستهلك بالمنتجات.
7- دور التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي
تساهم التكنولوجيا الحيوية في إنتاج مضادات الأكسدة بشكل أكثر كفاءة من خلال استنساخها أو تعزيز إنتاجها في كائنات دقيقة أو نباتات معدلة وراثيًا. كما أصبح الذكاء الاصطناعي أداة مهمة للتنبؤ بالمصادر الواعدة لهذه المركبات، بل وتصميم تركيبات غذائية مثالية تجمع بين عناصر متعددة لدعم صحة الإنسان.
التحديات والآفاق المستقبلية:
تواجه مضادات الأكسدة الطبيعية عدة تحديات تتعلق بتباين فعاليتها، وتأثيرها على الطعم واللون، وضمان سلامتها عند الاستخدام، إضافة إلى صعوبات التوسع الصناعي. وفي المقابل، تحمل هذه المركبات آفاقًا مستقبلية واعدة من خلال الاستفادة من التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي في تحديد المركبات الفعالة، وتطوير أنظمة توصيل ذكية تحافظ على نشاطها داخل الغذاء أو الجسم البشري، إلى جانب دمجها مع استراتيجيات حديثة لحفظ الأغذية بما يحقق أعلى مستويات الجودة والسلامة.
- الإختلاف في الفعالية بين مصادر مختلفة
تختلف فعالية مضادات الأكسدة الطبيعية بشكل كبير بسبب عوامل عديدة، مثل نوع النبات والسلالة والجزء المستخدم (قشر، لب، بذور)، وكذلك توقيت الحصاد وظروف التجفيف والتخزين.
كما أن طريقة الاستخلاص (نوع المذيب، درجة الحرارة، زمن الاستخلاص) تؤثر على كمية المركبات الفعالة وتركيبها، مثل حمض الكارنويسيك في إكليل الجبل أو الكاتيشينات في الشاي.
إضافة إلى ذلك، فإن فعالية هذه المركبات داخل الغذاء قد تختلف عن نتائجها في الاختبارات المعملية) مثل DPPH وABTS ) بسبب تفاعلاتها مع البروتينات والدهون أو وجود معادن مثل الحديد التي تسرّع الأكسدة.
لمعالجة هذه التحديات، تتجه البحوث إلى وضع معايير دقيقة للمستخلصات عبر تحديد مركبات مؤشِّرة وفرض مواصفات توريد صارمة، مع استخدام تقنيات مثل الكروماتوجرافيا (HPLC/LC–MS) لضمان الثبات والجودة.
كما يجري تصميم التجارب لتحديد الجرعات والتركيبات المناسبة لكل منتج، بجانب دراسة المزج بين أكثر من مضاد أكسدة لتحقيق تأثير تآزري، أو إضافة مواد ترتبط بالمعادن لتقليل دورها المحفِّز للأكسدة، بالإضافة إلى تقنيات مثل التغليف الميكروي لحماية المركبات النشطة وتحسين استقرارها.
- مشكلات النكهة عند إضافة بعض المستخلصات بتركيز مرتفع
قد تسبب بعض المستخلصات النباتية مرارة أو طعم قابض وروائح نفاذة أو تغيّرًا لونيًا عند تجاوز الحد الحسيّ، ويزداد ذلك وضوحًا في اللحوم البيضاء والأسماك.
تنشأ هذه التأثيرات من الفينولات والتربينات والزيوت العطرية. ولتقليل الأثر الحسي مع الحفاظ على الكفاءة، تتجه الأبحاث إلى: اختيار كسور منقّاة منخفضة التأثير الحسي بدل المستخلص الخام، واستخدام تقنيات إخفاء أو تعديل النكهة مثل التغليف الميكروي والارتباط بالسيكلودكسترينات أو إزالة الروائح بالبخار، والاعتماد على تركيبات متآزرة تقلل جرعة كل مكوّن منفرد، وربط الإضافة بخطوات المعالجة أو الإطلاق المتحكَّم عبر التغليف النشط لتجنّب التماس المباشر مع الطعم. كما يُوصى بدمج لوحات التذوّق المتخصّصة مع أدوات تحليلية (GC–MS للمتطايرات) لإيجاد نقطة التوازن بين الإطالة التخزينية والقبول الحسي.
- الحاجة إلى تقييم السلامة والجرعات المثلى
رغم أن هذه المركبات طبيعية، إلا أن استخدامها يحتاج إلى تأكيد سلامتها أولًا. ويشمل ذلك التأكد من نقاء المستخلص وخلوه من أي ملوثات مثل المبيدات أو المعادن الثقيلة أو بقايا المواد الكيميائية، وكذلك التأكد من عدم تسببها في الحساسية أو تفاعلها مع مكونات الطعام. لذلك، يجري تقييمها بشكل متدرج، يبدأ من اختبارات السلامة البسيطة على الخلايا، ثم دراسات أوسع إذا لزم الأمر، مع تحديد الجرعات الآمنة للاستهلاك.
أما الجرعة المثالية، فيتم تحديدها من خلال التوازن بين عدة عوامل: قدرتها على منع الأكسدة، وعدم تأثيرها على طعم أو لون المنتج، وأيضًا تكلفة استخدامها. ويتم ذلك من خلال اختبارات تخزين قصيرة وطويلة المدى، وأحيانًا باختبارات إضافية للتأكد من فعاليتها ضد الميكروبات. وفي النهاية، لا يُسمح باستخدامها إلا بعد اعتماد بروتوكول علمي واضح من الجهات الرقابية العالمية مثل هيئة سلامة الغذاء الأوروبية (EFSA) أو الموافقة الأمريكية (GRAS).
- إمكانية التوسع في التطبيقات الصناعية الكبرى
تسعى الصناعات الغذائية اليوم إلى زيادة استخدام مضادات الأكسدة الطبيعية بدلًا من المواد الصناعية، لكن هذا التوجه يواجه عدة عقبات. فالمواد النباتية التي تستخلص منها مضادات الأكسدة قد لا تتوافر طوال العام، كما أن تكاليف إنتاجها مرتفعة، ويصعب دمجها أحيانًا مع خطوط التصنيع الكبيرة التي تعمل بدرجات حرارة عالية. كذلك تحتاج الشركات إلى الحصول على موافقات خاصة من الجهات المختصة قبل استخدامها في التغليف النشط.
وللتغلب على هذه التحديات، بدأت الصناعة في استخدام طرق استخلاص حديثة صديقة للبيئة، مثل الاستخلاص بثاني أكسيد الكربون فوق الحرج أو الماء تحت الحرج ، مما يحسّن الكفاءة ويقلل التأثير البيئي. كما يتم تطوير أشكال أكثر ثباتًا وسهلة الاستخدام مثل المساحيق أو الحبيبات، بجانب التعاون مع شركات التغليف لإنتاج أغشية وأفلام جاهزة تحتوي على هذه المواد. وغالبًا ما تُدمج هذه الحلول مع تقنيات أخرى لحفظ الغذاء التغليف في جو معدل (MAP) أو الضغط العالي (HPP) لتحقيق حماية أكبر
وعلى صعيد التكنولوجيا الرقمية، يتم الاستعانة بأجهزة استشعار حديثة لمتابعة الأكسدة لحظة بلحظة، بالإضافة إلى استخدام نماذج رقمية للتنبؤ بفترة الصلاحية وتحسين الجودة. أما على المستوى العملي، فتتم التجارب على نطاق صغير ثم الانتقال إلى التشغيل التجريبي الواسع، مع دراسة الجدوى الاقتصادية والتأثير البيئي، وتدريب فرق العمل على التطبيق ومتابعة النتائج، مثل تقليل الأكسدة والهدر وتحسين ثبات الجودة.