د عاطف عشيبة يكتب:الحبار بين التكيف البيئي والتنوع الحيوي في البحار

وكيل معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية- مركز البحوث الزراعية- مصر
يعد الحبار (السيبط) من الكائنات البحرية الرخوية التي تنتمي إلى المملكة الحيوانية، شعبة الرخويات، وطائفة رأسيات الأرجل، ورتبة السبيطيات، وفصيلة السبيطيات الحقيقية، وينتمي إلى جنس Sepia الذي يضم عدة أنواع مثل Sepia officinalis المعروف بالسبيط الأوروبي الشائع، وSepia pharaonis أو السبيط الفرعوني المنتشر في المياه الدافئة للبحر الأحمر والبحر المتوسط.
يتميز السبيط عن غيره من رأسيات الأرجل كالأخطبوط والكاليماري بوجود عظمة داخلية جيرية تُعرف باسم “عظم السبيط” أو “Cuttlebone” التي تساعده على التحكم في الطفو داخل الماء. يعيش السبيط في البيئات البحرية المعتدلة والدافئة، ويتغذى على الأسماك الصغيرة والقشريات، ويُعد من الكائنات الذكية ذات القدرة العالية على التمويه وتغيير اللون، مما يساعده على التخفي من الأعداء والصيد بفعالية.
أولاً: البيئة المائية للسبيط وتنوع أنواعه ودورة حياته
يعيش الحبار (السبيط) في البيئات البحرية المختلفة، من المناطق الساحلية الضحلة حتى الأعماق التي تصل إلى أكثر من ألف متر، ويُفضل المياه المعتدلة والدافئة ذات الملوحة المتوسطة. ويتواجد عادة بالقرب من القاع الرملي أو الطيني، حيث يختبئ خلال النهار مستخدمًا قدرته على تغيير لونه بفضل خلايا الكروماتوفور الموجودة في جلده، مما يساعده على التمويه والهرب من المفترسات. كما يمتلك الحبار قدرة عالية على السباحة السريعة بفضل استخدامه لآلية النفث المائي التي تمكنه من الاندفاع بقوة في الماء، وهو ما يجعله من أكثر الرخويات رشاقة في الحركة.
تتنوع أنواع الحبار حول العالم، ويقدر عددها بأكثر من 300 نوع تنتمي إلى فصيلة الحباريات (Loliginidae) وفصائل أخرى ضمن طائفة رأسيات الأرجل (Cephalopoda). ومن أشهر أنواعه:
- الحبار الأوروبي (Loligo vulgaris) المنتشر في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي.
- الحبار الياباني الطائر (Todarodes pacificus) الذي يتميز بقدرته على القفز فوق سطح الماء لمسافات قصيرة.
- الحبار العملاق (Architeuthis dux) الذي يعد من أكبر اللافقاريات البحرية، إذ قد يتجاوز طوله 12 مترًا.
- الحبار القزم (Idiosepius spp.) وهو من أصغر الأنواع حجمًا، يعيش عادة بين النباتات البحرية.
أما دورة حياة الحبار فهي قصيرة نسبيًا، إذ تتراوح بين سنة إلى سنتين حسب النوع ودرجة الحرارة. تبدأ الدورة عندما تضع الأنثى كميات كبيرة من البيض الهلامي في مجموعات تثبت على الصخور أو الأعشاب البحرية. وبعد فترة حضانة تمتد من عدة أيام إلى أسابيع، يفقس البيض عن صغار تشبه البالغين في الشكل لكنها صغيرة الحجم وتعيش بالقرب من السطح لتتغذى على العوالق. ومع النمو، تنتقل إلى الأعماق تدريجيًا وتبدأ في التغذي على الأسماك الصغيرة والقشريات. يصل الحبار إلى مرحلة النضج الجنسي خلال عدة أشهر، وبعد عملية التكاثر تموت معظم الأفراد، وهي سمة شائعة في رأسيات الأرجل تعرف باسم التكاثر الأحادي (Semel parity).
ثانيًا :طرق التكاثر في السبيط (الحبار)
يتكاثر السبيط بطريقة جنسية، ويصنف ضمن الكائنات البحرية التي تتبع نظام التكاثر الأحادي (Semelparity)، حيث يقوم بالتزاوج مرة واحدة فقط خلال فترة حياته ثم يموت بعد إتمام عملية التكاثر.
وتحدث هذه العملية في مواسم محددة تختلف باختلاف نوع الحبار ودرجة حرارة المياه، وغالبًا ما تكون خلال فصلي الربيع أو الصيف حين ترتفع درجات الحرارة وتتوافر الظروف البيئية الملائمة لتطور البيض ونموه.
يمتلك ذكر الحبار عضوًا تناسليًا متخصصًا يعرف باسم الذراع الهايدية (Hectocotylus arm)، يستخدم لنقل الحزم المنوية (spermatophores) إلى الأنثى أثناء التزاوج.
وخلال هذه العملية، يقترب الذكر من الأنثى بحذر ثم يدخل الحزم المنوية في تجويف خاص يقع عادة تحت الرأس بالقرب من الفم أو في الجزء الأمامي من الجهاز الهضمي، ويختلف موقع الإيداع باختلاف النوع. تقوم الأنثى بتخزين هذه الحزم حتى يكتمل نمو البيض ويصبح مهيأ لعملية الإخصاب.
عقب الإخصاب، تضع الأنثى البيض في عناقيد هلامية وتثبتها على الأسطح الصلبة مثل الصخور أو الأعشاب البحرية أو داخل الكهوف المائية، وذلك لحمايتها من التيارات البحرية والمفترسات. ويُقدَّر عدد البيوض التي تضعها الأنثى الواحدة بعدة آلاف ، تبعًا لحجمها ونوعها. وتغلف هذه البيوض بطبقة شفافة لزجة تعمل كدرع وقائي يحميها من الملوثات والبكتيريا والعوامل البيئية الضارة.
تستغرق فترة الحضانة من عدة أيام إلى أسابيع، اعتمادًا على درجة حرارة المياه؛ فكلما ارتفعت الحرارة، قلت مدة الفقس. وبعد الفقس، تخرج اليرقات (paralarvae) صغيرة الحجم لكنها تحتفظ بالشكل العام للحيوان البالغ، وتبدأ السباحة فورًا لتتغذى على العوالق الحيوانية الدقيقة. ومع مرور الوقت، تنمو تدريجيًا وتنتقل إلى الأعماق البحرية لتعيش حياة مستقلة، حتى تبلغ مرحلة النضج الجنسي خلال 6 إلى 12 شهرًا.
ثالثًا: سلوكيات الحبار ووسائل الدفاع والتخفي
يعد السبيط (الحبار) من أكثر الكائنات البحرية ذكاءً وتطورًا في سلوكياته بين اللافقاريات، حيث يمتلك قدرات مميزة تساعده على التكيف مع بيئته المائية. يعيش الحبار عادة في مجموعات صغيرة أو متوسطة، مما يتيح له التعاون في الصيد والحماية من الأعداء. ويعتمد في حركته على نظام يعرف بالاندفاع المائي، حيث يسحب الماء إلى داخل جسمه ثم يدفعه بقوة من خلال أنبوب ييسمى القمع، مما يمنحه سرعة كبيرة ومرونة عالية أثناء السباحة.
من أبرز صفات الحبار قدرته الفائقة على تغيير لونه وشكل جلده في لحظات قصيرة جدًا. ويرجع ذلك إلى وجود خلايا خاصة في جلده تسمى الكروماتوفورات تحتوي على أصباغ مختلفة، إضافة إلى خلايا عاكسة تسمى الإيريدوفورات وأخرى بيضاء تعرف بالليوكوفورات. تعمل هذه الخلايا معًا لتكوين ألوان وأنماط متعددة يستخدمها الحبار للتمويه ضد المفترسات أو للتواصل مع غيره أثناء التزاوج أو الصيد.
كما يمتلك الحبار وسيلة دفاعية فعالة تعرف باسم إطلاق الحبر، حيث يفرز مادة داكنة اللون عند الإحساس بالخطر. يشكل هذا الحبر سحابة في الماء تحجب الرؤية عن المفترس وتساعد الحبار على الهروب بسرعة. وتشير الدراسات إلى أن الحبر يحتوي أيضًا على مواد كيميائية تضعف حاسة الشم لدى الأعداء، مما يزيد من فعاليته الدفاعية.
إضافة إلى ذلك، يظهر الحبار سلوكًا اجتماعيًا ذكيًا؛ إذ يستخدم الإشارات اللونية وحركات الجسم للتواصل مع أفراده، سواء أثناء المغازلة أو عند الدفاع عن منطقته. كما يتميز بقدرة عالية على التعلم وحفظ مواقع الغذاء وتكرار طرق الصيد الناجحة، مما يدل على مستوى عال من الإدراك بين الكائنات البحرية اللافقارية.
و لذا تعد هذه السلوكيات المذهلة من أهم أسباب نجاح الحبار في التأقلم مع بيئته، إذ تمنحه القدرة على الدفاع عن نفسه، والتخفي بمهارة، والتواصل بذكاء، مما يضمن له البقاء في مواجهة المفترسات والتغيرات البيئية المختلفة.