د رانيا مرتضي تكتب: تراث علاجي يقود التنمية من برديات الطب الفرعوني في افتتاح المتحف المصري الكبير
مركز بحوث الصحراء – مصر
في ظل الافتتاح المهيب للمتحف المصري الكبير، تحت رعاية فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي تتجدد أمام العالم ملامح أعظم حضارات التاريخ — حضارة العلم والفكر والإبداع الإنساني وفي هذة الحظة يلتقي فيها الماضي بالمستقبل، يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه ليكشف للعالم كنوز حضارةٍ لم تكن عظمتها في حجارة معابدها فحسب، بل في عقل الإنسان المصري القديم الذي سبق زمانه علمًا وفكرًا وإبداعًا.
ان هذا الصرح يُعدّ بوابة مصر الجديدة نحو استعادة مجدها الحضاري وعرض كنوزها العلمية والإنسانية للعالم، تتجلّى أمامنا صفحة من أعظم صفحات التراث المصري القديم؛ صفحة الطب والنبات.لقد كان المصري القديم عالمًا بالفطرة، استخدم الطبيعة كمعمل مفتوح، واستخلص من النباتات أسرار الشفاء والجمال والعطر.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يقدّم للعالم تماثيل ملوك الفراعنة فحسب، بل يقدّم حضارة علمٍ وإنسانيةٍ سبقت زمانها، ويذكّرنا بأن المصري القديم لم يكن صانع حجارة فقط، بل كان صانع علمٍ ودواءٍ وجمال.
فمن بين بردياته المحفوظة بحروفٍ من نور، برزت دلائل على أولى المحاولات المنظمة في الطب والعلاج بالنباتات الطبية والعطرية، حيث سجّل الفراعنة بدقة مذهلة وصفاتهم النباتية في معالجة الجروح والأمراض وتنقية الجسد والروح. وبين أروقة المتحف، لا تُعرض فقط تماثيل الملوك وآثار المعابد، بل تُروى قصة مصر كمهـدٍ للعلم والطب الطبيعي، من بردية إدوين سميث التي أرست مبادئ الجراحة، إلى بردية إيبرس التي وثّقت أكثر من ثمانمائة وصفة نباتية، مرورًا بـــ برديتي كاهون وبرلين اللتين سجّلتا أولى محاولات فهم أمراض النساء والتوليد.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير اليوم ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل هو دعوة لإحياء فكرٍ علميٍّ وإنسانيٍّ رائد وضعه أجدادنا منذ آلاف السنين، وما زال نوره يلهم العالم حتى اليوم.
لم يكن الطب في مصر القديمة مجرد ممارسات بدائية، بل كان علمًا متكامل الأركان يقوم على الملاحظة الدقيقة والتجربة العملية، واستخدام النباتات والزيوت الطبيعية في العلاج والوقاية.
ففي بردية إدوين سميث (Edwin Smith Papyrus) تُعد أقدم وثيقة علمية طبية في التاريخ تعود إلى نحو 1600 قبل الميلاد وربما أقدم من ذلك بنسخ تعود إلى 3000 ق.م، وهي شهادة عظيمة على تقدم المصريين القدماء في الطب والجراحة والعلاج الطبيعي بالنباتات. تحتوي على ٤٨ حالة طبية وجراحية موصوفة بدقة مذهلة، تشمل إصابات الرأس، العمود الفقري، الصدر، الجروح، الكسور، والأورام. كانت تسجّل الحالة وفق تسلسل علمي متطور جدًا الملاحظة والفحص ثم التشخيص فالقرار: “سأعالجه”، أو “لن أستطيع معالجته”. ثم وصف العلاج، وغالبًا ما يتضمّن نباتات طبية وزيوتًا عطرية طبيعية. وفيما يلي أمثلة واقعية ومفسّرة من محتوى هذه البردية
1. علاج الجروح والالتهابات
في إحدى الحالات يصف الطبيب: المصري القديم “إذا وجدت جرحًا عميقًا في الرأس حتى العظم، فاغسله بالنبيذ، وضمّده بالعسل وزيت الشجرة المقدسة كل يوم حتى يلتئم.” التفسير العلمي الحديث
• النبيذ كان يستخدم كمطهّر بفضل محتواه من الكحول.
• العسل يمتلك خصائص مضادّة للبكتيريا والتهابات الجروح (تُثبتها الدراسات الحديثة أيضًا).
• زيت الشجرة المقدسة يُعتقد أنه زيت اللبان أو المير، وكلاهما له تأثير مطهّر ومساعد على الالتئام.
2. علاج التورم أو الالتهاب بعد الإصابة
يصف الطبيب المصري القديم “ضع كمادة من أوراق الخروع المغلية في الزيت على الورم حتى يلين.” التفسير العلمي الحديث نبات الخروع (Ricinus communis) يحتوي على زيت غني بالأحماض الدهنية، يُستخدم حتى اليوم كملطف وملين ومضاد للالتهابات.
3. علاج الحروق
يصف الطبيب: المصري القديم “عالج الحرق بوضع دهان من لبان ودهون حيوانية وعسل.” التفسير العلمي الحديث يستخدم اللبان (Boswellia spp.) يحتوي على مواد راتنجية تساعد على تجديد الجلد وتخفيف الألم. كذلك العسل يعمل كمضاد للبكتيريا ويساعد في التئام الحروق.
4. علاج الجروح العميقة أو النزيف
يصف الطبيب: المصري القديم “إذا كان الجرح نازفًا، فاضغط عليه بقطعة كتان مشبعة بزيت الخروع، ثم اربط فوقها ضمادة من الكتان النظيف.” التفسير العلمي الحديث بالفعل استخدام الكتان (Linum usitatissimum) كضماد طبيعي لامتصاص الدم. وزيت الخروع يساعد في تهدئة الأنسجة وتحفيز الالتئام.
5. تخفيف آلام العظام أو المفاصل
يصف الطبيب: المصري القديم “اطحن أوراق الصفصاف مع العسل وضعها على المفصل المصاب لتسكين الألم.” التفسير العلمي الحديث يستخدم الصفصاف (Salix spp.) يحتوي على الساليسين، وهو المادة الأصلية التي طُوّرت منها الأسبرين لاحقًا، مما يثبت الفهم المبكر لتأثيراته المسكّنة والمضادة للالتهابات.
أما بردية إيبرس بردية إيبرس (Ebers Papyrus): فهي أعظم موسوعة طبية في التاريخ الفرعوني ترجع إلى حوالي 1550 ق.م عصر الدولة الحديثة – عهد تحتمس الثالث تقريبًا، يصل الطولها أكثر من 20 مترًا من البردي (أكثر من 100 عمود نصي) وتحتوي على أكثر من ٨٧٠ وصفة علاجية علاج أمراض القلب، الجهاز الهضمي، الجلد، العيون، النساء، الشعر، الأسنان، وحتى الاضطرابات النفسية.وتضم مئات النباتات الطبية حيث تشمل نحو 700 نبات طبي بالإضافة إلى معادن وحيوانات ومنتجات طبيعية. أمثلة واقعية من وصفات البردية
1. لعلاج أمراض المعدة والهضم
يصف الطبيب: المصري القديم “إذا عانى الإنسان من ألم في بطنه، فليأكل خليطًا من العسل والنعناع والكمون مع ماء الشعير.”التفسير العلمي الحديث وجد بالفعل ان النعناع (Mentha spp.) يهدّئ تقلصات المعدة. والكمون (Cuminum cyminum) يساعد على الهضم ويخفف الغازات. والعسل يسهّل مرور الغذاء ويقلل الالتهاب. وهذه الوصفة تشبه تمامًا المشروبات الهضمية الحديثة بعد الوجبات
2. لعلاج الطفيليات المعوية
يصف الطبيب: المصري القديم “خذ ثمرة من الحنظل المجفف واطحنها مع التمر والعسل وتناولها في الصباح لطرد الديدان من البطن.” التفسير العلمي الحديث وجد ان الحنظل (Citrullus colocynthis) معروف بقدرته على طرد الديدان وتطهير الأمعاء. والعسل والتمر لتخفيف مرارته وتقليل تهيّج المعدة.
3. لعلاج الجروح والتقرحات
يصف الطبيب: المصري القديم “ضع على الجرح خليطًا من العسل والمرّ واللبان حتى يلتئم.” التفسير العلمي الحديث يعمل المرّ (Commiphora myrrha) كمضاد للبكتيريا والفطريات. واللبان (Boswellia spp.) مضاد للالتهابات ويساعد في تجديد الخلايا. والعسل مطهّر طبيعي ومساعد قوي على الالتئام.
4. لعلاج تساقط الشعر أو تقويته
يصف الطبيب: المصري القديم “اغلِ ثمار البلح والعرقسوس مع زيت الخروع ودلّك الرأس يوميًا.” التفسير العلمي الحديث وجدوا ان لزيت الخروع اهمية في ينشّط بصيلات الشعر. والعرقسوس (Glycyrrhiza glabra) يحتوي على مواد مهدّئة ومغذية لفروة الرأس. والبلح مصدر للسكريات والمعادن المفيدة.
5. لعلاج أمراض الجهاز التنفسي (الكحة والبلغم)
يصف الطبيب: المصري القديم “اسحق البصل مع العسل، وخذ منه ملعقة صباحًا ومساءً.”التفسير العلمي الحديث وجدا ان البصل (Allium cepa) يحتوي على زيوت طيّارة طاردة للبلغم. والعسل يهدّئ الحلق ويخفف السعال.
6. لعلاج أمراض العيون
يصف الطبيب: المصري القديم “اغسل العين بماء يحتوي على عصارة نبات الألوفيرا (الصبار) مع القليل من العسل.” التفسير العلمي الحديث وجدوا بالفعل ان الألوفيرا (Aloe vera) مهدّئ ومضاد للالتهاب. والعسل يساعد على ترميم الأنسجة وتقليل العدوى.
7. لعلاج ارتفاع ضغط الدم أو خفقان القلب
يصف الطبيب: المصري القديم “خذ خليطًا من الثوم والعسل يُؤكل صباحًا لتهدئة نبض القلب.” التفسير العلمي الحديث وجد ان الثوم (Allium sativum) معروف بخفض ضغط الدم وتنظيم الدورة الدموية. والعسل مصدر طبيعي للطاقة ومقوٍ للقلب.
كل هذا تؤكد أن المصريين القدماء كانوا أول من وضع أسس علم الصيدلة النباتية (Phytotherapy) واستخدمتوا مكونات لا تزال أساسية في الطب الحديث تُظهر فهمًا مذهلًا للعلاقة بين النبات والجسم البشري لذا تعتبر بردية إيبرس ليست مجرد وثيقة طبية، بل موسوعة نباتية وصيدلية كاملة سبقت عصرها بآلاف السنين، جمعت بين العلم والتجربة والروحانية، وأرست قواعد استخدام النباتات الطبية والعطرية في العلاج الطبيعي.
وفي مجال طب النساء، تبرز بردية كاهون بردية كاهون (Kahun Papyrus)كأقدم وثيقة نسائية طبية في التاريخ ترجع الي حوالي 1825 ق.م من الدولة الوسطى – عهد أمنمحات الثالث. اكتُشفت في بلدة اللاهون (كاهون) قرب الفيوم على يد الأثري فليندرز بتري.وهي أول وثيقة في التاريخ عن أمراض النساء والتوليد وتنظيم النسل. تحتوي على أكثر من ٣٠ وصفة تتعلق بـ: العقم والخصوبة. – الحمل والولادة. – اضطرابات الدورة الشهرية. – وسائل منع الحمل.وقد استخدمت النساء المصريات وصفات طبيعية من العسل، والكتان، والعرقسوس، والبلح لتقوية الرحم أو منع الحمل بطرق علمية مذهلة سبق بها الفراعنة عصرهم بآلاف السنين و من أمثلة بردية كاهون:
1. اختبار الحمل
يصف الطبيب المصري القديم “ضعي حبات من القمح والشعير في كيسين منفصلين، وبلّليهما ببول المرأة كل يوم. فإذا نما الشعير كانت حاملاً بذكر، وإذا نما القمح كانت حاملاً بأنثى، وإذا لم ينمُ شيء فليست حاملاً.” التفسير العلمي الحديث هذا الاختبار أعيدت تجربته علميًا في القرن العشرين، وتبيّن أن هرمون الإستروجين في بول الحامل يمكن أن يحفّز نمو البذور بالفعل بل يدلّ ذلك على وعي المصريين القدماء بالتغيرات الكيميائية أثناء الحمل.
2. لعلاج العقم أو ضعف الخصوبة
يصف الطبيب المصري القديم “اسحقي البلح والعرقسوس مع لبن البقرة الطازج، وادهني به المهبل لتقوية الرحم.” التفسير العلمي الحديث وجدا ان العرقسوس (Glycyrrhiza glabra) يحتوي على مركبات تشبه الهرمونات الأنثوية (الفيتوأستروجين). وكذلك البلح مصدر طبيعي للسكريات والمعادن التي تنشّط الدورة الدموية في الرحم. وتُعدّ هذه الوصفة من أوائل الوصفات الداعمة للخصوبة في التاريخ.
3. وسيلة لمنع الحمل
يصف الطبيب المصري القديم “يُخلط العسل مع ألياف الكتان ويُوضع داخل الرحم لصدّ دخول المني.” التفسير العلمي الحديث اكتشف ان العسل مادة لزجة مضادة للبكتيريا. وألياف الكتان (Linum usitatissimum) تعمل كحاجز ميكانيكي بسيط. حيث تشبه فكرة الواقي الأنثوي البدائي أو السدادة المهبلية الطبية.
4. لعلاج آلام الحيض أو التشنجات الرحمية
يصف الطبيب المصري القديم “اغلي أوراق النعناع مع زيت الخروع، واستخدمي البخار الدافئ للرحم.” التفسير العلمي الحديث اكتشف ان النعناع (Mentha spp.) مهدئ ومسكّن طبيعي. وزيت الخروع (Ricinus communis) يساعد في ارتخاء العضلات وتنشيط الدورة الدموية.
واخيرا كذلك جاءت بردية برلين (Berlin Papyrus)لتكمل هذا الإرث، موثقة وصفات لعلاج النزف الرحمي وتثبيت الحمل حيث تعود إلى حوالي 1200 ق.م الدولة الحديثة تحتوي على نصوص طبية متقدمة تشمل أمراض النساء، الحمل، والولادة، إضافةً إلى وصفات للأمراض العامة. حيث تركز على تشخيص الحمل ومراحله، وعلاج النزف والإجهاض، وتنظيم الحيض. وأمثلة من بردية برلين:
1. لتثبيت الحمل ومنع الإجهاض
يصف الطبيب المصري القديم “اطحن نبات الصبار مع اللبن والعسل واشربه صباحًا ليثبّت الجنين في الرحم.” التفسير العلمي الحديث وجد ان الصبار (Aloe vera) يحتوي على مكونات مضادة للالتهاب ومقوّية لجدار الرحم. والعسل مغذٍ ومهدّئ عام. واللبن مصدر للكالسيوم والبروتين.
2. لعلاج النزف الرحمي
يصف الطبيب المصري القديم “اغلي أوراق الرمان الجافة واشرب من مائها ثلاث مرات في اليوم.” التفسير العلمي الحديث وجد ان الرمان (Punica granatum) يحتوي على مواد قابضة (Tannins) تقلل النزف وتساعد على انقباض الأوعية الدموية.
3. لتسهيل الولادة
يصف الطبيب المصري القديم “دلكي البطن بزيت الخروع أو زيت البردي قبل الولادة لتليين الأنسجة.” التفسير العلمي الحديث بالفعل زيت الخروع منبه للعضلات الملساء، مما يساعد على بدء الطلق. زيت البردي (Cyperus papyrus) غني بالزيوت العطرية المهدئة.
4. لعلاج التهابات المهبل
يصف الطبيب المصري القديم “اغسلي الموضع بماء مغلي فيه نبات الشيح والمرّ.” التفسير العلمي الحديث يعمل الشيحك (Artemisia spp.) مطهر ومضاد للفطريات. وكذلك المرّ (Commiphora myrrha) مضاد للبكتيريا ويخفف الالتهاب.
وهكذا، وبين جدران المتحف المصري الكبير، لا تُعرض مجرد آثار صامتة، بل تُروى حكاية الإنسان المصري الذي حوّل الطبيعة إلى علم، والنبات إلى شفاء، والعطر إلى روحٍ خالدة.
إن تأمل برديات الطب القديمة يكشف أن ما نعتبره اليوم “الطب الحديث” إنما هو امتداد لعقلٍ مصريٍّ قديمٍ سبق العالم في الفهم والملاحظة والتجريب.
ومع افتتاح هذا الصرح العالمي، ينهض صوت التاريخ ليقول إن مصر كانت – وما زالت – مهد الطب والنبات والعطر، وإن تراثها العلمي لا يقل عظمة عن أهراماتها وتماثيلها، بل هو سرّ خلودها الحقيقي عبر العصور.






