بحوث ومنظماتتقاريرزراعة

د هالة أبو يوسف تكتب : توطين صناعة المبيدات… رهان مصر على تحقيق الأمن الغذائي المستدام والسيادة الإقليمية

في عالم تتسارع فيه التحولات الاقتصادية والبيئية، لم يعد ملف المبيدات الزراعية شأنًا فنيًا يخص المزارعين أو الشركات المنتجة فقط، بل أصبح أحد أعمدة الأمن الغذائي والسيادة الوطنية لأي دولة تطمح إلى الاستقلال بقرارها الزراعي. فالأمن الغذائي يبدأ من الحقل، والحقل لا يمكن أن ينتج دون أدوات فعّالة لمكافحة الآفات التي تهدد المحاصيل وتلتهم ما يقارب 30% من الإنتاج الزراعي العالمي سنويًا.

مصر، التي تمتلك أكثر من 9.7 مليون فدان صالحة للزراعة فعليًا حتى عام 2025، وتنتج محاصيل تصديرية تتجاوز قيمتها 3.5 مليار دولار سنويًا، ما زالت تعتمد بنسبة تفوق 65% على استيراد المواد الفعالة للمبيدات من الخارج. هذا الاعتماد الكبير لا يشكل فقط عبئًا اقتصاديًا، بل يمثل أيضًا تهديدًا استراتيجيًا، لأن أي اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية – كما حدث خلال جائحة كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية – يمكن أن يؤدي إلى نقص حاد في المبيدات، وبالتالي إلى تراجع إنتاج المحاصيل وارتفاع الأسعار، وهو ما ينعكس مباشرة على الأمن الغذائي للمواطن المصري.

تشير بيانات وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي إلى أن فاتورة استيراد المبيدات، سواء في صورة مواد فعالة أو مستحضرات تامة الصنع، تتجاوز 220 مليون دولار سنويًا. ورغم أن هذا الرقم يبدو محدودًا مقارنة بفاتورة القمح أو الذرة، فإن أهميته تتجاوز قيمته المالية، لأن غياب المبيدات يعني ببساطة توقف عجلة الإنتاج الزراعي. كما أن الاعتماد على الخارج يجعلنا رهينة لتقلبات الأسعار العالمية، ومخاطر التشديدات الأوروبية المتعلقة بمتبقيات المبيدات في الصادرات الزراعية المصرية، حيث كان الاتحاد الأوروبي خلال الفترة من 2020 إلى 2024 أكثر الجهات التي أصدرت إنذارات ضد بعض الصادرات المصرية ضمن نظام الإنذار السريع لأغذية والأعلاف (RASFF).

إن قضية المبيدات ليست قضية فنية، بل قضية سيادة وطنية وأمن قومي. فالمزارع يمكنه التكيف مع ارتفاع أسعار البذور أو الأسمدة، لكنه لا يستطيع حماية محصوله دون وسيلة فعّالة لمكافحة الآفات. ومن ثم، فإن توطين صناعة المبيدات في مصر لم يعد خيارًا اقتصاديًا، بل أصبح ضرورة وطنية لضمان استقرار الإنتاج الزراعي وحماية الصادرات وتحقيق الاكتفاء الذاتي من مدخلات الإنتاج الحيوية.

ورغم حجم التحديات، فإن مصر تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على التحول إلى مركز إقليمي لصناعة المبيدات في الشرق الأوسط وأفريقيا. فموقعها الجغرافي المتميز بين أوروبا وأفريقيا يؤهلها لتكون مركزًا للتصنيع والتصدير معًا. كما أن قاعدتها الزراعية الواسعة تضمن وجود طلب محلي دائم، خاصة في ظل مكانتها ضمن أكبر عشر دول في تصدير الموالح، إلى جانب إنتاج ضخم من البطاطس والعنب والرمان والفراولة. وتتمتع البلاد ببنية صناعية قادرة على احتضان استثمارات ضخمة في هذا المجال، لا سيّما في المناطق الاقتصادية الحديثة مثل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. وإلى جانب ذلك، تمتلك مصر خبرات علمية متراكمة في هذا المجال تتمثل في لجنة مبيدات الآفات الزراعية وبعض المعاهد والمعامل التابعة لمركز البحوث الزراعية يأتي على رأسها المعمل المركزي للمبيدات ومعهد بحوث وقاية النباتات ومعهد بحوث أمراض النباتات والمعمل المركزي لبحوث الحشائش وايضاً المعمل المركزي لتحليل متبقيات المبيدات والعناصر الثقيلة في الأغذية، بالإضافة إلى الجامعات المصرية والمراكز البحثية لمختلفة، يمكن استثمارها لتأسيس قاعدة علمية قوية للصناعة.

غير أن طريق التوطين لن يكون سهلًا. فالتحديات عديدة ومعقدة، تبدأ من ارتفاع تكلفة إنشاء مصانع إنتاج المواد الفعالة التي تتجاوز في بعض الحالات 50 مليون دولار، مرورًا بمتطلبات معالجة المخلفات الكيميائية الصارمة، ووصولًا إلى الحاجة لتحديث التشريعات المنظمة لتتوافق مع المعايير الدولية لجذب الشركاء التقنيين. كما أن فجوة التكنولوجيا بيننا وبين الدول الصناعية الكبرى تمثل تحديًا حقيقيًا، إذ لا تزال بعض عمليات الإنتاج في المنطقة العربية تعتمد على تقنيات قديمة تقلل من القدرة التنافسية. وإلى جانب ذلك، يظل البحث العلمي التطبيقي في مصر بحاجة إلى دعم وتمويل لربط الأبحاث الجامعية بالصناعة وتحويل الأفكار إلى منتجات قابلة للتسويق.

النظر إلى تجارب الدول الأخرى يمنح مصر دروسًا مهمة في كيفية بناء صناعة وطنية قوية. فالصين تمكنت من قيادة صناعة المبيدات عالميًا عبر إنشاء مجمعات صناعية كيميائية ضخمة وتكاملية، ما جعلها اليوم تستحوذ على أكثر من 40% من الإنتاج العالمي. أما الهند، فقد ركزت على إنتاج المبيدات (Generic Pesticides) غير الخاضعة لحقوق الملكية الفكرية، وأصبحت ثاني أكبر مصدر عالمي بإيرادات تتجاوز 5 مليارات دولار سنويًا. وفي المقابل، اتجهت البرازيل إلى الاستثمار في المبيدات الحيوية، فحققت طفرة في صادراتها الزراعية إلى أوروبا، ونجحت في تعزيز مكانتها كقوة زراعية صاعدة.

انطلاقًا من هذه التجارب، يمكن لمصر أن ترسم مسارها الخاص نحو التوطين من خلال خطة مرحلية واضحة تبدأ بإعادة تعبئة وتجهيز المستحضرات محليًا، ثم الانتقال إلى إنتاج المواد الفعالة على المدى المتوسط، مع جذب استثمارات أجنبية من شركات صينية وهندية بنظام المناطق الحرة أو الشراكات الصناعية المشتركة. كما يجب أن يكون للبحث العلمي دور محوري في هذه المنظومة، عبر إنشاء مراكز بحث وتطوير داخل الجامعات والمراكز البحثية لتكون الأذرع العلمية للصناعة.

وفي ظل التوجه العالمي نحو الزراعة المستدامة، تمتلك مصر فرصة كبيرة لتبني صناعة المبيدات الحيوية والمستخلصات النباتية بالاعتماد على مواردها الغنية من النباتات الطبية والعطرية، وهو مجال واعد يمكن أن يمنحها ميزة تنافسية في الأسواق الأوروبية التي تتجه نحو تقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية التقليدية.

إن صناعة المبيدات ليست مجرد قطاع اقتصادي جديد، بل هي جبهة من جبهات الأمن القومي المصري. فامتلاك القدرة على إنتاج المدخلات الزراعية يعني امتلاك القرار الوطني في مجال الغذاء، ويمنح مصر قدرة على مواجهة الأزمات العالمية بثقة واستقلال. إن الفرصة اليوم متاحة أمام الدولة المصرية لتكون مركزًا إقليميًا لصناعة المبيدات يخدم الأسواق العربية والأفريقية، لكن هذه الفرصة تحتاج إلى رؤية واضحة، وإرادة قوية، وخطوات عملية تبدأ من الآن، قبل أن نجد أنفسنا غدًا رهائن لتقلبات الأسواق العالمية وقرارات الآخرين.

فالتوطين ليس حلمًا بعيد المنال، بل مشروع وطني قابل للتحقق إذا ما تم توجيه الاستثمارات والجهود إليه باعتباره أحد ركائز الأمن الغذائي والسيادة الوطنية لمصر في العقود القادمة.

بقلم أ.د./ هالة أبو يوسف – رئيس لجنة مبيدات الآفات الزراعية

 

 

 

ندى خليل

صحفية مهتمة بالشئون الزراعية والاقتصادية وعملت في تغطية فاعليات زراعية محلية ودولية، وأسعى لتقديم المعلومات بشفافية تامة لتصل بوضوح إلى الباحثين عنها.
زر الذهاب إلى الأعلى