د علياء هاشم تكتب: اللحوم الوظيفية…مفاهيم وتطبيقات حديثة نحو غذاء صحي مستدام
باحث أول- قسم بحوث تكنولوجيا اللحوم والأسماك – معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية- مركز البحوث الزراعية
شهدت صناعة اللحوم في السنوات الأخيرة تحولا كبيرا في توجهها نحو إنتاج منتجات غذائية أكثر فائدة للصحة العامة وأقل ضررا بالبيئة. ومع تصاعد الوعي الغذائي وازدياد معدلات الأمراض المزمنة المرتبطة بالنظام الغذائي، مثل أمراض القلب والسكري والسمنة، برز مفهوم اللحوم الوظيفية كأحد الاتجاهات الحديثة في تطوير الأغذية. هذا النوع من اللحوم لا يقتصر على قيمته الغذائية التقليدية، بل يتم تصميمه بحيث يؤدي وظائف حيوية إضافية تسهم في تحسين صحة المستهلك ورفع كفاءة الأداء الأيضي للجسم.
مفهوم اللحوم الوظيفية
اللحوم الوظيفية هي منتجات لحوم تم تعديل تركيبها الحيوي أو الفيزيائي أو الكيميائي بطريقة ترفع من قيمتها الصحية. ويشمل ذلك تحسين مكوناتها من الأحماض الدهنية، زيادة محتواها من مضادات الأكسدة أو الألياف الغذائية، أو تدعيمها ببكتيريا نافعة (بروبيوتك) أو مركبات حيوية فعالة مثل أوميغا-3 والبوليفينولات.
تختلف اللحوم الوظيفية عن اللحوم التقليدية في أن الهدف من إنتاجها لا يقتصر على الطعم والمظهر، بل يمتد إلى التأثير الإيجابي في العمليات الحيوية داخل جسم الإنسان، مثل خفض الكوليسترول، تحسين مناعة الجسم، وتقليل الالتهاب الخلوي الناتج عن الإجهاد التأكسدي.
التقنيات الحيوية المستخدمة في تصنيع اللحوم الوظيفية
تعتمد التقنيات الحديثة في هذا المجال على تطبيقات التكنولوجيا الحيوية والهندسة الغذائية التي تتيح تعديل خصائص اللحم على المستوى الجزيئي. من أبرز هذه التقنيات:
التخمير الحيوي والتحكم الميكروبي
الأساس العلمي
التخمير الحيوي يعني استخدام كائنات دقيقة مفيدة — بكتيريا أو خمائر — لتحويل مكونات غذائية إلى مركبات ذات قيمة وظيفية. في سياق اللحوم الوظيفية، تُستخدم هذه الميكروبات لإطلاق إنزيمات تكسر البروتينات والدهون إلى ببتيدات وأحماض دهنية قصيرة ذات نشاط بيولوجي، أو لإنتاج مركبات مضادة للأكسدة، أو لإثراء المنتج بميكروبات نافعة تحسّن التوازن الميكروبي في الجهاز الهضمي للمستهلك.
طرق التنفيذ العملية
- اختيار سلالات آمنة ومثبتة الاستخدام الغذائي مثل أنواع من اللاكتوباسيلوس والخمائر الصالحة للأغذية.
- تحضير وسط تخمير مناسب يحتوي على سكريات وبروتينات قابلة للتحلل ضمن درجة حرارة وزمن مناسبين لتحقيق الناتج المرغوب.
- تطبيق التخمير على مكونات اللحم المفروم أو معالجاته قبل أو بعد التعبئة، أو استخدام مستخلصات التخمير كمضافات.
- مراقبة مؤشرات التخمير (pH)، استهلاك السكر، إنتاج المركبات لضمان اتساق المنتج والسلامة.
الفوائد المتوقعة
- زيادة القيمة الوظيفية عبر إنتاج ببتيدات مضادة للأكسدة أو مضادة للالتهاب.
- تحسين النكهة والمرونة الحسية من خلال إطلاق مركبات عطرية طبيعية.
- إضافة خصائص بروبيوتيكية عند استخدام سلالات حية قابلة للبقاء في مراحل التخزين أو عند تناسبها مع المنتج.
التحديات والقيود
- الحاجة لضبط شروط التخمير بدقة لتجنب نمو غير مرغوب فيه.
- مخاطر تغير الطعم أو التورم الغازي إن لم تُحكم العملية.
- متطلبات رقابية لتوثيق السلالات المستخدمة وضمان سلامتها وسجلها الغذائي.
- إمكانية فقدان الفاعلية خلال الطهي أو التخزين إذا لم تحسن طرق التركيب أو التغليف.
إعادة تركيب الأحماض الدهنية
الأساس العلمي
الهدف هو زيادة الجزء المفيد من الدهون في المنتج وتقليل المكونات الضارة. يمكن تحقيق ذلك بطريقتين مترابطتين: تعديل مصدر الدهون عبر تدخل غذائي في الحيوان قبل الذبح، أو تعديل التركيب الدهني بعد الحصاد عبر عمليات بيولوجية أو إنزيمية تحول الدهون المشبعة إلى غير مشبعة أو تضيف مركبات أوميغا-3.
طرق التنفيذ العملية
- التحسين في تغذية الحيوان: إدخال مضافات نباتية غنية بالأوميجا-3 أو بذور معينة في علف الحيوان يؤدي إلى تراكم دهون أكثر صحية في أنسجته.
- المعالجة الحيوية للدهون بعد الحصاد: استخدام إنزيمات محددة أو طرق تخمير مع ميكروبات لإجراء تعديل جزئي في الروابط الدهنية وزيادة نسبة الأحماض غير المشبعة.
- خلط الدهون المستخرجة المعدلة مع اللحم في عملية التصنيع لرفع نسبة الأوميغا-3 دون التأثير الكبير على الملمس.
الفوائد المتوقعة
- تقليل مخاطر القلب عبر خفض الدهون المشبعة وزيادة الأحماض الدهنية المفيدة.
- إمكانية تسويق المنتج كـ«لحم غني بالأوميجا-3» للجمهور الصحي.
- تحسين الخصائص الفيزيائية للمنتج مثل الطراوة والانصهار أثناء الطهي.
التحديات والقيود
- توازن الطعم: الدهون غير المشبعة قد تتأكسد أسرع وتسبب طعما رائجا إن لم تحسن طرق الحماية والأكسدة.
- تكلفة المضافات الغذائية أو الإنزيمات المستخدمة في المعالجة الحيوية.
- الضوابط التنظيمية المتعلقة بادعاءات الصحة والوسم الغذائي.
- الحاجة لتأكيد ثبات النسبة عبر دورات الإنتاج المختلفة.
تكنولوجيا الإثراء بالمستخلصات النباتية
الأساس العلمي
استخدام مركبات نباتية مركزة تضاف إلى المنتج للحصول على فوائد مضادة للأكسدة، مضادة للالتهاب أو لتعزيز النكهة والقيمة الحسية. المركبات النباتية غالبا تكون بوليفينولات، كاروتينات، أو مركبات عطرية ذات نشاط بيولوجي. تندمج هذه المركبات مع البروتين والدهون في المنتج لتقديم وظائف صحية ودور حافظة طبيعية جزئياً.
طرق التنفيذ العملية
- اختيار مصادر نباتية فعالة ومستقرة: مثل الشاي الأخضر، الكركم، الرمان، إكليل الجبل، أو مستخلصات البندق والزنجبيل.
- استخلاص المركبات الفعالة بطرق مناسبة (استخلاص مائي أو بالأسيتون أو بالإيثانول حسب المكون) ثم تنقية وتركيز المستخلص.
- دمج المستخلص في اللحم المفروم أو في غلاف المنتج أثناء الخلط بحيث يتوزع المركب بشكل متجانس.
- استخدام تقنيات الحماية مثل (microencapsulation) لحماية المركبات من الأكسدة أو التحلل الحراري أثناء الطهي.
الفوائد المتوقعة
- رفع محتوى المنتج من مضادات الأكسدة مما يطيل عمره الافتراضي ويقلل تأكسد الدهون.
- إضفاء خواص صحية إضافية مثل تقليل الالتهاب أو تحسين صحة الجهاز الهضمي.
- تقليل الاعتماد على المواد الحافظة الصناعية وزيادة القيمة التسويقية للمنتج.
التحديات والقيود
- ثبات المركبات أثناء المعالجة الحرارية: بعضها يتحلل بالحرارة أو يتفاعل مع مكونات اللحم مسببا تغير لون أو طعم.
- التفاعل الحسي: بعض المستخلصات قد تمنح نكهة أو لوناً غير مرغوب فيه للمستهلك.
- تكلفة المستخلصات عالية النقاء وضرورة إثبات نسب الأمان والفعالية.
- الحاجة لوضع تعليمات تخزين مناسبة للحفاظ على الفاعلية.
زراعة الخلايا الحيوانية في المختبر
الأساس العلمي
تعتمد على استزراع خلايا حيوانية في وسط غذائي خاضع للسيطرة، حيث تتكاثر وتتمايز إلى ألياف عضلية ودهون ثم تُجمّع لتشكيل نسيج لحمي. هذه العملية تحوّل مادة حية أولية إلى قطع لحمي قابلة للاستهلاك دون ذبح الحيوانات.
مراحل التنفيذ العملية
- الحصول على خلايا بداية مستقرة وصالحة للاستخدام المتكرر.
- توسيع هذه الخلايا في وسائط خالية من المصل أو ببدائل مصنعة لدعم النمو.
- استخدام هياكل داعمة أو تقنيات طباعة حيوية لبناء شكل ثلاثي الأبعاد وحفظ التوزيع الخلوي.
- تزويد الخلايا بالأكسجين والمغذيات عبر مفاعلات أو أنظمة تدفق محكمة، وتحفيزها ميكانيكياً أو كهربائياً للنضج الوظيفي.
- حصاد النسيج، معالجة نهائية لتحسين اللون والطعم، وتعبئة وفق معايير سلامة الغذاء.
الفوائد المتوقعة
- إنتاج لحم بنقاوة ميكروبية أعلى وخال من المضادات الحيوية.
- إمكانية هندسة التركيبة الغذائية داخل النسيج (دهون محسنة، فيتامينات، ملمس مضبوط).
التحديات والقيود
- تكلفة عالية لوسائط النمو، عوامل النمو، وتكاليف المفاعلات.
- مشكلة توزيع الأكسجين والتغذية داخل الأنسجة السميكة مما يقيد حجم القطع الممكن إنتاجها دون شبكات وعائية فعالة.
- الحاجة إلى سلالات خلايا مستقرة قوية التكاثر مع قابلية تمايز متوقعة.
- متطلبات رقابية صارمة لإثبات السلامة والفعالية، وضمان عدم وجود مخاطر وراثية أو تلوث بروتيني.
- قبول المستهلك: ضرورة توضيح الفوائد ومخاوف الجودة الحسية.
المزايا الصحية والغذائية
تتميز اللحوم الوظيفية بعدة فوائد صحية مقارنة باللحوم التقليدية، من أهمها:
- خفض محتوى الدهون المشبعة والكوليسترول.
- زيادة محتوى الأحماض الدهنية الأساسية المفيدة لصحة القلب والمخ.
- تعزيز المناعة من خلال مركبات حيوية مثل البروبيوتك والبيبتيدات النشطة.
- تحسين استجابة الجسم للالتهابات وتقليل الإجهاد التأكسدي.
- دعم التوازن الميكروبي في الجهاز الهضمي وتحسين الامتصاص الغذائي.
هذه الخصائص تجعل من اللحوم الوظيفية خيارا مثاليا للأفراد الباحثين عن أنظمة غذائية متوازنة وصحية دون الاستغناء عن مصادر البروتين الحيواني.
الاتجاهات المستقبلية
تشير الدراسات الحديثة إلى أن المستقبل سيشهد تكاملا أكبر بين التقنيات الحيوية والذكاء الاصطناعي في تصميم تركيبات لحوم مخصصة للفئات المختلفة من المستهلكين، مثل الرياضيين أو كبار السن. كما يُتوقع استخدام البروتينات البديلة المستخلصة من الحشرات أو الطحالب أو الفطريات لزيادة القيمة الوظيفية.
وتتجه الأبحاث حاليا إلى تحسين صفات اللحوم المزروعة مخبريا بحيث تحتوي على مكونات فعالة مثل الأحماض الدهنية المفيدة ومضادات الأكسدة الطبيعية. كما يجري تطوير أنظمة ذكية للتتبع والجودة لضمان سلامة هذه المنتجات واستدامتها بيئيا.
الخلاصة
تعد اللحوم الوظيفية نقلة نوعية في مفهوم الغذاء الصحي، إذ تجمع بين القيمة الغذائية العالية والتأثيرات الإيجابية على الصحة العامة. ومع استمرار التطور في التكنولوجيا الحيوية، من المتوقع أن تصبح هذه المنتجات جزءا أساسيا من النظام الغذائي المستقبلي، خاصة في ظل الحاجة إلى حلول غذائية مستدامة تلبي متطلبات الصحة والبيئة في آن واحد.
المراجع
- Grunert, K. G. et al. (2021). Consumer acceptance of functional meat products: Trends and challenges. Meat Science, 181, 108611.
- Toldrá, F., & Reig, M. (2023). Innovations in functional meat products: Bioactive compounds and processing technologies. Food Research International, 165, 112498.
- Yadav, S., & Ahmad, R. S. (2022). Biotechnological approaches for developing healthier meat products. Critical Reviews in Food Science and Nutrition, 62(10), 2793–2812.
- Hocquette, J. F. (2020). Is in vitro meat the future of food? Meat Science, 169, 108177.






