تقاريرحوارات و مقالاتخدماتيزراعة

د علي إسماعيل يكتب: الزراعة المصرية في مواجهة المناخ …الأمن الغذائي في عصر الندرة

استاذ ادارة الاراضي والمياه بمركز البحوث الزراعية… مصر

الزراعة المصرية في قلب التحولات المناخية العالمية. وتُعد الزراعة المصرية أحد أقدم الأنظمة الزراعية في العالم وأكثرها تكيفًا مع الطبيعة، إذ شكّلت على مرّ العصور العمود الفقري للاقتصاد المصري ومصدر الحياة على ضفتي النيل. ومع ذلك، فإنها اليوم تواجه تحديًا غير مسبوق يتمثل في آثار التغيرات المناخية التي باتت تُلقي بظلالها الثقيلة على كل جوانب النشاط الزراعي، من موارد المياه إلى الإنتاجية والتوزيع الغذائي.

إن التغير المناخي لم يعد مجرد ظاهرة بيئية، بل قضية أمن قومي تهدد استدامة الإنتاج الزراعي وتوازن الأمن الغذائي لمئة وخمسين مليون مواطن مستقبلاً. فقد أصبحت مصر من بين الدول الأكثر تأثرًا بندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة، وفقًا لتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)   ) ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO).

وتشير الدراسات الحديثة إلى أن كل ارتفاع في درجة الحرارة بمقدار درجة مئوية واحدة يمكن أن يؤدي إلى تراجع إنتاجية القمح بنحو 6 إلى 10%، وهي نسبة كفيلة بإحداث خلل واضح في ميزان الغذاء الوطني. كما أن الزيادة المتوقعة في ملوحة الأراضي، نتيجة لتسرب مياه البحر في شمال الدلتا، قد تُفقد مصر ما يقارب 15% من أراضيها الزراعية الخصبة بحلول عام 2050 إذا لم تُتخذ إجراءات وقائية فعالة.

في هذا السياق، تبرز أهمية الإدارة المستدامة للموارد المائية والزراعية، ودور البحث العلمي الزراعي في تطوير حلول ذكية للتكيف مع المناخ. فمستقبل الأمن الغذائي المصري يتوقف على قدرة الدولة على تحقيق التوازن بين استغلال الموارد المحدودة ومواجهة الظواهر المناخية المتطرفة، بما يضمن استدامة الإنتاج واستقرار السوق الغذائي المحلي.

 أولاً: المخاطر المناخية على الزراعة المصرية

يواجه القطاع الزراعي المصري مجموعة من التحديات المناخية التي تؤثر مباشرة على الإنتاجية الزراعية وجودة المحاصيل، ويمكن تلخيص أبرزها فيما يلي:

  • انخفاض إنتاجية المحاصيل الاستراتيجية
    ارتفاع درجات الحرارة خلال مواسم النمو يؤدي إلى تراجع إنتاجية القمح والأرز والذرة والقطن، وهو ما يهدد الاكتفاء الذاتي ويزيد الاعتماد على الواردات.
  • ندرة المياه وتدهور التربة
    انخفاض حصة الفرد من المياه العذبة وتزايد ملوحة الأراضي، خاصة في شمال الدلتا، يحدّ من قدرة التربة على الإنتاج.
  • ارتفاع منسوب سطح البحر
    يهدد مساحات شاسعة من دلتا النيل بالغمر والتملح، ما ينعكس على خصوبة الأراضي وجودة المياه الجوفية.
  • الظواهر الجوية المتطرفة
    موجات الحر والجفاف والفيضانات المفاجئة تسببت في خسائر كبيرة للمحاصيل والثروة الحيوانية، وتدهور خصوبة التربة.
  • تفاقم الآفات والأمراض
    أدى تغير المناخ إلى توسع نطاق انتشار الحشرات الضارة والأمراض النباتية، ما يزيد تكاليف المكافحة ويخفض الإنتاج.

 ثانياً: الأمن الغذائي تحت الضغط

تنعكس هذه التحديات المناخية في زيادة الفجوة الغذائية بين الإنتاج والاستهلاك، خصوصاً في الحبوب والزيوت، وهو ما يجعل مصر عرضة لتقلبات الأسعار العالمية.
كما تتأثر الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الريف بسبب انخفاض الإنتاجية الزراعية وارتفاع تكاليف المدخلات، مما يعقّد جهود التنمية المستدامة والقضاء على الفقر والجوع.

 ثالثاً: مؤشرات الإنتاج الزراعي (2023/2024)

رغم الصعوبات، أظهر القطاع الزراعي قدرة نسبية على الصمود، وفقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء:

  • القمح: بلغ الإنتاج نحو 9.4 مليون طن بزيادة 4.5%.
  • الأرز: انخفض الإنتاج إلى 5 ملايين طن بتراجع 19.4%.
  • إجمالي الحبوب: نحو 21.9 مليون طن.

أما في قطاع الخضر والفاكهة:

  • شهد إنتاج الخضروات زيادة بنسبة 11.5% ليبلغ متوسط نصيب الفرد 94.7 كجم.
  • بلغ إنتاج الفاكهة نحو 13.7 مليون طن، بمتوسط نصيب فردي 69 كجم.
  • تجاوزت الصادرات الزراعية الطازجة 4.9 مليون طن في النصف الأول من 2024 وقد تعدت ٧.٥ مليون طن الشهر الماضي أكتوبر ٢٠٢٥ وتتصدرها الموالح (أكثر من 2 مليون طن) والبطاطس (930 ألف طن).

 رابعاً: الفجوة في محاصيل الزيوت… التحدي الأكبر

تُعد المحاصيل الزيتية (فول الصويا، دوار الشمس، الكانولا، وبذرة القطن) نقطة ضعف رئيسية في منظومة الأمن الغذائي، إذ لا يتجاوز الاكتفاء الذاتي 10%.
يبلغ الإنتاج المحلي نحو 200 ألف طن فقط من الزيوت، مقابل فجوة سنوية تتجاوز 2 مليون طن، مما يجعل مصر تستورد ما بين 90% إلى 97% من احتياجاتها.

ولمواجهة ذلك، تتبنى الدولة استراتيجية طموحة تشمل:

  1. التوسع في زراعة فول الصويا ودوار الشمس والكانولا في الأراضي الجديدة.
  2. تفعيل الزراعة التعاقدية لضمان سعر مجزٍ وتشجيع المزارعين.
  3. تطوير معاصر ومجمعات الزيوت مثل مجمع برج العرب.
  4. رفع الاكتفاء الذاتي إلى 25% خلال السنوات القادمة.

 خامساً: المحاصيل السكرية نحو الاكتفاء الذاتي

تمثل محاصيل السكر (قصب وبنجر السكر) محوراً مهماً في ملف الأمن الغذائي.
تتراوح الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك حالياً بين 400 إلى 800 ألف طن، بنسبة اكتفاء ذاتي تصل إلى 85–90%.

وتسعى مصر إلى تحقيق الاكتفاء الكامل بحلول 2026-2027 عبر:

  • التوسع في زراعة بنجر السكر بالأراضي الجديدة لتغذية المصانع الحديثة مثل “القناة للسكر”.
  • ترشيد استهلاك المياه في زراعة القصب عبر نظم الري الحديثة.
  • إنشاء مصانع جديدة في مناطق مثل الضبعة لتعزيز الإنتاج وتحقيق فائض للتصدير.

سادساً: سياسات التكيف الوطني واستراتيجيات المواجهة

اعتمدت مصر حزمة من الإجراءات الطموحة لتعزيز مرونة القطاع الزراعي في مواجهة التغيرات المناخية، من أبرزها:

  • استنباط أصناف جديدة مقاومة للجفاف والحرارة والملوحة.
  • تطبيق الزراعة الذكية مناخياً عبر تحديث الخريطة الزراعية وتعديل مواعيد الزراعة.
  • التحول إلى نظم الري الحديثة (الرش والتنقيط) لترشيد استخدام المياه.
  • حماية الأراضي الزراعية وتجريم التعديات عليها.
  • التوسع الأفقي عبر مشروعات قومية كـ”مستقبل مصر الزراعي” و”الدلتا الجديدة”.

طريق الاستدامة الزراعية

إن مواجهة التغيرات المناخية تتطلب تكاملاً بين السياسات والبحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة، مع تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الزراعة المستدامة.
فالمعركة الحقيقية ليست فقط في زيادة الإنتاج، بل في حماية الموارد الطبيعية وضمان حق الأجيال القادمة في غذاء آمن ومستدام.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى