بحوث ومنظماتبيزنسبيطريتقارير

د منيرة بسيوني تكتب: الفراعنة أول من وضع نظام حفظ الألبان في العالم

رئيس قسم بحوث تكنولوجيا الالبان- معهد الإنتاج الحيواني – مركز البحوث الزراعية – مصر

اليوم الأول من شهر نوفمبر عام 2025، شهد العالم حدثا استثنائياً ، هو الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، الذي يُعدّ أكبر صرح أثري مخصّص للحضارة المصرية القديمة. وفي خضم هذه الأجواء التاريخية المهيبة، نستعيد جانبا فريداً من عبقرية المصري القديم، ليس في فنون العمارة والنحت فحسب، بل في علوم الغذاء وحفظ الألبان وتصنيع الأجبان.

ففي قاعات المتحف، تقف الأواني الحجرية والفخارية شاهدًا حيًا على براعة المصري القديم في تخزين اللبن وتحويله إلى منتجات متعددة. وقد كشفت التحاليل الأثرية عن وجود بقايا بروتينات لبنية و جزيئات دهنية داخل الأواني المكتشفة في سقارة، ما يشير إلى أن المصريين القدماء كانوا يصنعون أنواعًا مختلفة من الجبن منذ أكثر من ٣٠٠٠ عام قبل الميلاد.

كما عُثر في مقبرة “بتاحمس”، عمدة مدينة ممفيس – العاصمة القديمة لأول مملكة فرعونية موحدة – على أقدم قطعة جبن معروفة في التاريخ، يُقدّر عمرها بحوالي ٣٢٠٠ عام قبل الميلاد. وأظهرت التحاليل أن الجبن كان مزيجا من لبن الأبقار والماعز والأغنام، كما تم الكشف عن بروتينات مصل اللبن واللبن الرائب أيضا.

وتزدان جدران المعابد والنقوش الملكية بصور حيّة توثق هذا التراث الغذائي؛ فمن أجمل النقوش في عصر الدولة الوسطى ما وُجد على تابوت الملكة كاويت، زوجة الملك منتوحتب الأول في الدير البحري، حيث يُصوَّر أحد الخدم وهو يحلب البقرة وقد ربط في ساقيها وليدها الصغير، بينما يُظهر الوجه الآخر من التابوت الخادم نفسه وهو يقدّم اللبن للسيدة كاويت، في مشهد يجسد رمزية اللبن كغذاء للحياة والنقاء.

كانت الأجبان القديمة تُصنع بطرق بدائية ولكنها ذكية ومستدامة، باستخدام المنفحة النباتية أو الحمضية، ثم تُجفف في أشكال مختلفة لتناسب التخزين في المناخ الحار. وتشير الدراسات الحديثة إلى وجود أجبان طرية وأخرى صلبة، وربما تشبه ما نعرفه اليوم من الجبن الأبيض الريفي أو الجبن الجاف المصري الذي تطور عبر العصور.
ولم تكن الأجبان غذاءً فحسب، بل عنصراً أساسياً في القرابين والاحتفالات الدينية، تُقدَّم للآلهة رمزاً للخصب والطهارة، كما كانت غذاءً مثاليًا للجنود والرحّالة لسهولة حفظها ونقلها.

واليوم، ومع افتتاح هذا الصرح العظيم، نجد في تلك الشواهد الأثرية إلهامًا علميا لنا في قسم بحوث تكنولوجيا الألبان بمعهد بحوث الإنتاج الحيواني، حيث نواصل ما بدأه أجدادنا من إبداع، عبر تطوير أنواع جديدة من الأجبان تعتمد على أسس علمية دقيقة، وتجمع بين الأصالة، التراث، الجودة، والاستدام.

إن افتتاح المتحف المصري الكبير لا يروي فقط قصة حضارة، بل يعيد التأكيد على أن اللبن والجبن كانا جزءًا من هوية الإنسان المصري منذ آلاف السنين. ومن الجرار الفخارية القديمة إلى أجهزة التصنيع الحديثة، تستمر رحلة الألبان رمزًا للعلم والحياة والذاكرة المصرية الخالدة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى