بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالات

لمباركية نوّار يكتب: تفاقمُ ظاهرة التّغيب الجماعيّ للمتعلّمين!!

كاتب جزائري

لا تنسب ظاهرة التّغيب الجماعي للمتعلمين عن مدارسهم وانقطاعهم عن الدراسة إلى الظواهر الجديدة المعيشة. فالظاهرة قديمة نسبيا، وقد بدأت في الانتشار والتوسع مع بروز ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” التي عمل مُمارسوها من المعلمين والأساتذة على ترحيل العملية التعليمية ـ التّعلمية، ونقلها إلى أجواف المستودعات أين تقام متاجر بيع الحروف. فهي التي فرضت الهجرة القسرية من أقسام المدارس بعد اللجوء إلى ممارسة أساليب “مبتكرة” لا تمت بأدنى رابط إلى البيداغوجيا من طرف الأساتذة، ويضاف إلى ذلك التراخي الماكر والتقاعس البغيض في القيام بواجباتهم المنصوص عليها قانونا على أكمل وأحسن وجه في المؤسسات التعليمية، وإنفاق معظم جهودهم وطاقاتهم خارجها.

سار منحنى هذه الظاهرة السوأى، التي تعاني منها المؤسسات التعليمية خاصة في الطورين المتوسط والثانوي وكلما حلّت المناسبات الدينية والوطنية وقبل العطل والأعياد وبعدها، سار سيرا متزايدا وملفتا للأنظار هذه السنة من بعد إجراء امتحانات الفصل الدراسي الثاني خلال شهر رمضان. وزاد الانقطاع عن الدراسة تفاقما وتضخما مع دنو عطلة فصل الربيع.

خطورة  ظاهرة التغيب الجماعي

توضع ظاهرة التغيب الجماعي التي بدأت تستفحل، وتتجه في نموها كالعلة المرضية المتعبة التي تكبر يوما بعد يوم نحو خرق المدرسة وتعجيزها، توضع في الخانة الحمراء كمؤشر بالغ الخطورة؟؟. ولهذا لا يمكن الوقوف موقف المتفرج الذي لا يحرك ساكنا أمام خطورتها وتهديداتها ومفاسدها. ولا مناص من محاربتها بلا تردد، ومقاومتها بكل الوسائل القانونية المتاحة صونا لشرف مدرستنا الوطنية، وحفاظا على سمعة تعليمنا النظامي الذي كان قبل عقود قليلة مفخرة من مفاخر وطننا. وأما السكوت عنها فهو سكوت عن جريمة تقترف في حق التعليم.

يحمل التغيب الجماعي في طياته أعراض أزمة كبرى لا تقبل الاحتقار أو الإهمال، وهي أزمة نابعة من حالة مرَضية نشبت أنيابها في جسم تعليمنا لاستنزافه. وتعبر عن سيادة فكرة سلبية رانت على أذهان المتعلمين المنخرطين في خضم هذا السلوك المحزن والمخزي من دون أن يستحضروا تأثيره المؤلم على تكوينهم وعلى بناء مستقبلهم. ويعني ذلك أن أهم فصيل في المجتمع المدرسي لم يفقه قيمة الوقت في رسم ملمح وأفق الغد الذي ينتظره الوطن، ويراهن عليه؟؟.

ظاهرة التغيب الجماعي وشهر رمضان

لا يشق على الفكر البحث عن المسؤول عن هذه المشكلة، ولا يكلف الباحث عنه صرف طاقة ضخمة لمعرفته. فالمستفيد الأول منها هو المسؤول الذي تثبت في حقه الإدانة والتهمة. ولا يجوز ربط المشكلة بشهر رمضان كما يروّج له. ولو كان هذا السبب صحيحا، فلماذا لا تتوقف الدروس اللصوصية هي الأخرى في هذا الشهر الفضيل؟. ولماذا أصبحت مقراتها الدامسة تستقبل المتعلمين نهارا وليلا من بعد الإفطار حتى اقتراب موعد وجبة السّحور؟. وعبر تاريخ التعليم الطويل، وحتى في أحرج الأوقات، لم تعرف المدارس تقديم دروسها ليلا إلا نادرا؟؟. فالليل وجد للراحة والاستسلام للنوم واكتناز الطاقة وتجديد النشاط لمجابهة أعمال النهار، ولا يزحف فيه إلا العساعس “القنافذ”؟؟.

كيف يقبل تحميل شهر رمضان هذه التهمة الكبرى وإلصاقها بظروفه؟؟. والتذرع بالصيام وما يرافقه من تعب وخمول وتكاسل لتبرير الفعل الغيابي الجماعي غير مقبول؛ لأن أجيالا من المتعلمين السابقين درسوا في شهر رمضان بصورة عادية، ولم يتخلوا عن مقاعدهم، ولم تكن مدارسهم تشكو من حالات الشغور كما يحصل في أيامنا. وكان المعلمون والأساتذة يقدمون أعمالهم بشكل عادي وفي نشاط مفعم. ولا ينقص من الحياة المدرسية العادية ما يخل بوتيرة البرامج اليومية.

يفقد المتعلم الذي يتابع دروسا لصوصية حتى آخر الساعات من الليل، يفقد القدرة على النهوض صباحا للالتحاق بمدرسته، ويجد نفسه مضطرا للغياب بحثا منه عن تعويض لراحته. وغالبا ما يحضر الأستاذ إلى المؤسسة حضورا جسمانيا فقط، ويتهاون في تقديم دروسه. وفي كثير من الحالات، يحث المتعلمين ويشجعهم على التغيب بصورة غير مباشرة بإمساكه عن التدريس بدعوى أن غياب عدد من زملائهم يكلفه إعادة الدرس مرة أخرى؟؟. ويسقط هذا التصرف الممارس والمتكرر التهمة الموجهة إلى الأولياء بتحميلهم قسط من مسؤولية تمدد ظاهرة التغيب الجماعي؟.

ككل الظواهر الاجتماعية، لم تنبت ظاهرة التغيب الجماعي من العدم، وإنما هناك من يقدم لها بالإيعاز والتلميح. ويتهادى المتعلمون في غفلة وعي في طريقها المعوجة معتمدين على حيلة الفعل الجماعي مع استعمال وسائل التواصل الحديثة من دون نسيان للعدوى النفسية سعيا للانفلات من العقاب القاسي الذي يتهددهم لو تطبق اللوائح التنظيمية التي تنظر في الغياب عن الدراسة فردا فردا.

وقفت في اندهاش، لما روى لي أستاذ شاب يحمل في نفسه حماسة غزيرة وغيرة فائرة عن المدرسة، فقد قال لي: إن زميلا له يشتغل معه في نفس المؤسسة، وبمجرد أن استطاع التخلص بطريقة خبيثة من المتعلمين الذين جاؤوا لحضور درسه، سأله زميل آخر عن وجهته، فأجاب: إنني ذاهب للاسترزاق؟؟. فكيف يقبل من يحمل رسالة عظمى ويتصدى لتدبير واجب وطني شريف أن يبحث عن مصدر غير نظيف للرزق وهو صائم؟؟.

بعد دور الأساتذة وهم المسؤولون بالدرجة الأولى عن الانضباط الفصلي ومساهمتهم بطرق خفية في توسيع ظاهرة التغيب الجماعي للمتعلمين بدفعهم من خلف الستائر وحملهم على التمرد، تأتي أدوار المديرين والمفتشين في المراقبة والمتابعة والمعاينة المباشرة.

ولعل إعادة النظر في منح هذه المناصب الذي يتطلب مراجعة جذرية قد يكون جزءا من حل هذه المعضلة. ولن يتأتى ذلك إلا بإبعاد أيدي ما يسمى بـ”نقابات التربية” عن التصرف في التأهيل لهذه المناصب الإشرافية، وقطع السبل أمامها بعد أن جعلت منها طعوما إغرائية لجلب المنتسبين إلى صفوفها على حساب تجنيد الأكفاء والمؤهلين لخدمة المدرسة الوطنية بإخلاص واقتدار. وقد أثبتت الملاحظات أنه لا يتولد عن تنصيب مدير فاشل ينفر من المواجهة ويضعف حتى أمام المتعلمين لفرض النظام أو مفتش عاجز عن كتابة تقرير تفتيش من دون أخطاء أو تنشيط جلسة تكوينية إلا الظواهر التي تخرّب المدرسة، وتقوّض بنيانها.

نجاح الحكومة في مواجهة ظاهرة الغش في الإمتحانات الرسمية

استطاعت وزارة التربية الوطنية أن تنتصر، وبفضل حسن تسخير الوسائل المتاحة والإتكاء على صرامة القانون وتشديد العقوبات في إصرار، استطاعت أن تنتصر على ظاهرة الغش في الامتحانات الرسمية في زمن قصير.

وإن الوزارة التي ملكت هذه الإرادة القوية في محاربة هذا الداء الذي غزا جسم منظومتنا التربوية في وقت ما، لن تقف مكتوفة الأيدي في معركتها التطهيرية والمضي على نفس النهج للقضاء على أم العلل التي أفسدت كل الصور الجميلة التي كان يتحلى بها نظامنا التربوي، وهي الدروس اللصوصية النكدة، والعمل على حظرها وتجريم كل من يقدمها وفي أي مكان؛ لأنه لا توجد شريعة تقر بالمتاجرة في حقل التربية والتعليم، والرغبة في العلم وهوى الدينار لا يلتقيان.

كيف نواجه ظاهرة الدروس اللصوصية؟

لا تجلب محاربة ظاهرة الدروس اللصوصية أي رد فعل مربك يوقع في الحيرة لما يختار لها الزمان المناسب. وقد أظهرت المحاولة الاختبارية التي شرع فيها في بداية الثلاثي الثاني من الموسم الدراسي الجاري، وهي المحاولة التي استحسنها كثير من أولياء الأمور، أظهرت أن إنهاءها غير مكلف، ولا يستتبع تعبا مضنيا، ولا يترتب عنه أي اضطراب يزعزع النشاط التعليمي النظامي.

وإن عدت هذه العملية التي جعلت أصحاب المستودعات يغلقون أبوابها بلا ضجيج، ويتوارون عن الأنظار، ويتوقفون مرغمين عن فعلهم الشنيع، محاولة اختبارية لسبر الوضع واختبار أحواله، فإنها أثبتت سهولة القضاء على هذه الوباء الذي يشبه الطاعون والكوليرا، لأن من يأتونها لا يملكون ثقة مشروعية هذا الفعل الذميم في أنفسهم، وهم أشبه ما يكونون بحطبة الليل.

وانطلاقا من ذلك، فلا مهرب ولا مفر من إعادة الكرة بقوة من طرف وزارة التربية الوطنية بشكل أخص في أقرب وقت؛ لأنها هي الوزارة المخولة بالدفاع عن مدرستنا وحمايتها من كل المخاطر المحدقة بها بعد اختيار الوقت المناسب وجمع كل الأدوات المساعدة على استئصال هذا الورم الخبيث وقطعه من جذوره.

وأنني على يقين أن وزارة التربية الوطنية ستنتصر في هذه المعركة لدحض أباطيل دعاة الدروس اللصوصية القذرة، وغسل وجه منظومتنا التربوية من السخام والأوساخ، وتخليصها من الأعفان والأدران التي تفوح منها روائح نتنة.

تأثير التغيب الجماعي للمتعلمين والمنظومة التعليمية

لا جرم أن التغيب الجماعي للمتعلمين هو من بين أكبر عوامل الهدر المالي والضياع التربوي في المنظومة التعليمية الرسمية. ولو قدر عدد الساعات الضائعة بسبب هذا السلوك لبلغ ملايين الساعات التي تنقص من أعمار متعلمينا التعليمية، وتذهب سدى مع الريح من دون جني محاصيل معرفية يستفيدون منها. والتي بسببها يتراجع المستوى المعرفي التحصيلي ويتدهور، ويبقى إنهاء المناهج معلقا في كل سنة، وتفرض العتبة نفسها في الامتحانات الرسمية، ويفقد التقويم مواصفة معتبرة من مواصفاته الأساسية.

مع كل دورة يقطعها الزمن، تتعرى عورات الدروس اللصوصية السخيفة أكثر فأكثر، وتزداد وضاعتها وحقارتها ظهورا وتجليا، وتنتصب أمام الأعين جاثمة كما تنتصب النباتات الشوكية والحنظل في الحقول التي تغزوها. ولا يبقى أمام أصحاب الجهود الخيرة سوى أن تتظافر وتتماسك حتى تمكن غروس مدرستنا الوطنية من الإزهار والإثمار، وبذلك يكتب لها التدرج في مراتب الرقي والرفع من سمعة الوطن.

 

زر الذهاب إلى الأعلى