د هالة أبو يوسف تكتب : توطين صناعة المبيدات في مصر – خطوة حاسمة نحو تقليص فجوة الاستيراد
تتجه مصر بخطوات واثقة نحو توطين صناعة المبيدات الزراعية باعتبارها أحد المحاور الاستراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي وتعزيز الاستقلال الاقتصادي. فالمبيدات تمثل عنصرا أساسيا في منظومة الإنتاج الزراعي، إذ تسهم في حماية المحاصيل من الفقد الذي قد يصل إلى نحو 35 سنويا نتيجة الآفات، وفقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة FAO ، وفي ظل الأزمات العالمية المتكررة التي تؤثر على سلاسل الإمداد وارتفاع تكاليف الاستيراد، أصبح توطين صناعة المبيدات خيارا وطنيًا لا يحتمل التأجيل، بل ضرورة اقتصادية وتنموية لبناء صناعة قوية ومستدامة.
يهدف هذا التوجه إلى ضمان توافر المبيدات بالكميات والنوعيات المناسبة لتنفيذ برامج مكافحة الآفات الزراعية بكفاءة، وتحقيق وفرة في الغذاء وجودة في الإنتاج، إلى جانب خفض فاتورة الاستيراد وتوفير العملة الصعبة.
كما يسهم في خلق فرص عمل مباشرة داخل المصانع وغير مباشرة في الصناعات التكميلية مثل خطوط الإنتاج ومواد التغليف والبطاقات الاستدلالية.
ويمثل توطين الصناعة أيضًا رافدًا أساسيا لبناء قاعدة صناعية وطنية قادرة على المنافسة عالميا وتشجيع الابتكار في مجال التقنيات والمنتجات الجديدة .
بدأت صناعة المبيدات في مصر عام 1957 بإنشاء مصنع شركة كفر الزيات للمبيدات والكيماويات، لتشكل تلك الخطوة النواة الأولى لهذا القطاع الحيوي، وحتى مطلع الألفية الجديدة، ظل عدد المصانع محدودا ، قبل أن تشهد الصناعة طفرة حقيقية خلال العقدين الأخيرين، مع توسع واضح في إنشاء المصانع الجديدة وتزايد الاستثمارات الموجهة لهذا المجال، ولا سيما في محافظتي البحيرة والإسكندرية لقربهما من الموانئ البحرية، ما يعكس إدراك المستثمرين لأهمية هذا القطاع ودوره في دعم منظومة الإنتاج الزراعي.
وباتت المصانع المحلية اليوم والتي وصل عددها إلى 49 مصنع تسهم بجزء ملموس يصل إلى 30% من احتياجات السوق المحلي من المبيدات، في خطوة تمهد تدريجيا نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي من المبيدات. كما أن تصنيع وتجهيز المستحضرات داخل مصر يحقق ترشيداً كبيرا لإنفاق العملة الأجنبية يصل إلى 70% مقارنة باستيراد المنتج النهائي Ready made ، كما أنه يدعم بناء خبرات وطنية متخصصة في هذا المجال. وتشير مؤشرات الأداء خلال الأعوام الأخيرة إلى تزايد معدلات الإنتاج وارتفاع حجم الصادرات، بما يعكس تحسن جودة التصنيع وارتفاع القدرة التنافسية للمبيدات المصرية في الأسواق الإقليمية والدولية، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى ما شهدته الصناعة المحلية من تطور نوعي في صور المستحضرات المنتجة. فبعد أن كانت تقتصر على المركزات القابلة للاستحلاب والمساحيق القابلة للبلل ومساحيق التعفير، بدأت المصانع في إنتاج مستحضرات حديثة تتميز بكفاءة أعلى وأمان نسبي أكبر للبيئة والعاملين، ويواكب هذا التطور الاتجاهات العالمية نحو تقليل المخاطر الكيميائية وتوسيع استخدام التقنيات الآمنة والمستدامة .
وتتميز المصانع المصرية ببنية تحتية قوية تلتزم بالمعايير البيئية والصحية والأمن الصناعي، مع وجود برامج صيانة دورية ومخازن منفصلة للمواد الخام والمساعدة، كما أن نسبة كبيرة من مستلزمات التعبئة والتغليف متوفرة محليا، إلى جانب توافر المذيبات والمواد المساعدة بنسبة تصل إلى 80% من مكونات المبيد، مما يقلل الاعتماد على الاستيراد.
وتمتلك مصر أيضًا كوادر فنية وعلمية مؤهلة، إذ تضم الجامعات والمعاهد الزراعية العديد من الأقسام المتخصصة في المبيدات ومكافحة الآفات، فضلاً عن تزايد الابتكارات البحثية في المبيدات الحيوية والمستخلصات النباتية.
تسهم السمعة المتميزة التي تحظى بها لجنة مبيدات الآفات الزراعية بوزارة الزراعة لدى الهيئات الدولية مثل منظمة الأغذية والزراعة FAO ووكالة حماية البيئة الأمريكية EPA والاتحاد الأوروبي في تعزيز الثقة في المنظومة المصرية وتسهيل إقامة شراكات مع الشركات العالمية، كما تفتح المجال أمام استثمارات جديدة لتصنيع المبيدات داخل البلاد.
ورغم التحديات التي لا تزال تواجه بعض المصانع مثل ضعف تجهيز المعامل وأنظمة الجودة والحاجة إلى مزيد من برامج التدريب للعاملين، فإن الرؤية الوطنية تسير بخطى متقدمة نحو دعم الصناعة ورفع كفاءتها وضمان مطابقتها للمعايير الدولية، ومن الجدير بالذكر أن لجنة مبيدات الآفات الزراعية تمنح المبيدات المحلية عدد من الحوافز، حيث أن المبيد المجهز محلياً يمنح خفضاً في تكلفة تسجيل المبيد بنسبة تصل إلى 10%، كما تدرس اللجنة اقتصار تجريب المبيدات الحيوية التي يتم إنتاجها محلياً على موسم زراعي واحد بدلاً من موسمين لتوفير الوقت والجهد وتشجيع المنتج المحلي، مع الحفاظ على الأمان البيئي.
إن الدعوة إلى توطين صناعة المبيدات في مصر هي في جوهرها دعوة إلى بناء صناعة استراتيجية تدعم الاقتصاد الوطني وتحقق الاكتفاء الذاتي وتفتح آفاقاً للتصدير الإقليمي خاصة في القرن الأفريقي الذي يعد سوقاً واعداً للتصدير، وكذلك التصدير إلى مختلف دول العالم خارج أفريقيا. فهذه الصناعة لم تعد مجرد نشاط إنتاجي، بل أصبحت ركيزة أساسية للتنمية الزراعية المستدامة، وضمانة حقيقية للأمن الغذائي والسيادة الاقتصادية لمصر.
كاتب المقال:
الدكتورة هالة أبو يوسف – رئيس لجنة المبيدات الزراعة بوزارة الزراعة






