بحوث ومنظماتتقاريرحوارات و مقالاتخدماتيزراعة

د طارق عبدالعليم يكتب: هل تنجح الرقمنة في تقليل استهلاك المبيدات عالميًا؟

المعمل المركزي للمبيدات -مركز البحوث الزراعية- مصر

يشهد العالم الزراعي تحولًا سريعًا تقوده التكنولوجيا الرقمية، من استخدام الطائرات المسيرة إلى الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، بهدف مواجهة أحد أكبر التحديات البيئية والصحية: الاعتماد المتزايد على المبيدات الكيميائية.

ورغم أن هذه المبيدات لعبت دورًا مهمًا في حماية المحاصيل وزيادة إنتاج الغذاء عالميًا، إلا أن الإفراط في استخدامها أصبح يهدد التربة والهواء والمياه والحياة البرية، بل وصحة المستهلكين والمزارعين على حد سواء.

وهنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للرقمنة أن تساعد العالم على خفض استهلاك المبيدات دون التأثير في الإنتاج الزراعي؟

·       التكنولوجيا تعيد تعريف مفهوم المكافحة

ظهرت خلال السنوات الأخيرة مجموعة من الأدوات الرقمية القادرة على إحداث نقلة في أسلوب إدارة الآفات. هذه الأدوات لا تقوم فقط بتحسين الرش أو تسريع العمل، بل تغير الفلسفة بالكامل من “الرش الوقائي العام” إلى “التدخل الذكي عند الحاجة”.

أبرز هذه الأدوات تشمل:

  • الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة التي تلتقط صورًا دقيقة للمزارع وتحدد بؤر الإصابة بدلًا من الرش الكامل.
  • المستشعرات الأرضية التي تقيس رطوبة التربة ودرجة الحرارة وحركة الآفات وتنبّه المزارع عند ارتفاع احتمالية الإصابة.
  • منصات الذكاء الاصطناعي التي تحلل البيانات وتوصي بأفضل توقيت للعلاج وأقل كمية مبيد ممكنة.
  • معدات الرش الذكي التي تطبق جرعات متغيرة بحسب شدة الإصابة، وليس بنفس المعدل على كل الحقل.

فكرة “ذكاء المكافحة” تقوم على قاعدة واضحة:
كل معلومة إضافية عن الحقل تعني فرصة إضافية لتقليل الرش

·       هل تؤدي الرقمنة بالفعل إلى تقليل المبيدات؟

التجارب العالمية أظهرت نتائج مشجعة للغاية. ففي العديد من المزارع التي جرى تطبيق أنظمة الرش الدقيق والطائرات المسيرة، انخفض حجم المبيدات المستخدمة بنسبة تتراوح بين 40% و70 % دون أي خسائر في الإنتاجية. أما الأنظمة الرقمية التي تعتمد على التنبؤ بالآفات، فقد مكّنت بعض المزارعين من تقليل عدد رشات الموسم من 6 أو 7 رشات إلى 2 أو 3 فقط.

هذا التغير لم يحدث بسبب المنع، بل عبر تحسين توقيت ومكان وجرعة المبيد. حين يعرف المزارع:

  • أين توجد الآفة؟
  • في أي مرحلة نمو المحصول تكون أكثر خطورة؟
  • وما إذا كان المناخ مناسبًا لزيادة أو تراجع نشاط الآفة؟

فإنه يُجري المكافحة عند الحاجة فقط وليس بدافع القلق أو الروتين.

·       لماذا لا يزال العالم يستخدم كميات ضخمة من المبيدات؟

رغم النجاحات، توجد فجوة واضحة بين الإمكانات التقنية وتطبيقها على أرض الواقع. ويمكن تلخيص أسباب ذلك في أربعة محاور:

  1. التكلفة

امتلاك طائرة مسيرة أو جهاز تصوير متعدد الأطياف أو نظام تحليل ذكي قد يفوق قدرة المزارع محدود الدخل. وفي دول تعتمد على ملايين المزارعين الصغار، تصبح تكلفة التحديث عائقًا كبيرًا.

2. التدريب

التقنيات الرقمية لا تعمل وحدها. تحتاج إلى تدريب عملي، وفهم، وتفسير للبيانات. ضعف الإرشاد الزراعي الرقمي يحد من الفائدة المتوقعة.

3. الاتصال بالإنترنت والبيانات

الزراعة الرقمية تعتمد على تدفق البيانات. وفي بعض المناطق الريفية لا تزال البنية التكنولوجية ضعيفة.

4. الثقافة الزراعية والمقاومة للتغيير

بعض المزارعين يطمئنون نفسيًا عند الرش المتكرر، ويعتبرون تقليل الرش مخاطرة. الانتقال من “الوقاية بالرش” إلى “الوقاية بالمعلومات” يتطلب غرس ثقة جديدة.

أين تنجح الرقمنة أكثر؟

تكون الرقمنة فعالة بصورة كبيرة عندما تتوفر ثلاثة عوامل:

  1. بيانات دقيقة عن الحقل
  2. توصيات زراعية قابلة للتطبيق
  3. معدات أو خدمات تطبيق دقيقة

أمثلة على إنجازات الرقمنة:

  • في زراعة الفواكه ذات القيمة العالية مثل العنب والتفاح والرمان، حققت الرقمنة نتائج كبيرة لأن قيمة المحصول تبرر الاستثمار.
  • في المشاريع الواسعة مثل القمح والذرة وفول الصويا، أسهمت معدات الرش الذكي وأنظمة التنبؤ في تقليل التكاليف وزيادة الربح.

أما في المناطق الزراعية الصغيرة، فيظهر حل مهم يحقق العدالة: شركات تقديم خدمات تكنولوجية للمزارعين بأسعار مناسبة بدلًا من إلزام كل مزارع بالشراء.

المنافع البيئية والصحية هائلة

نجاح الرقمنة في خفض المبيدات لا يعني فقط توفير المال، بل يشمل:

  • تقليل التلوث الكيميائي للتربة والمياه
  • إبطاء تطور مقاومة الآفات للمبيدات
  • حماية الحشرات النافعة والكائنات غير المستهدفة
  • تقليل مخاطر بقايا المبيدات على المنتجات الزراعية والأسواق التصديرية
  • تحسين صحة المزارعين الذين يتعرضون مباشرة للمواد الكيميائية

التكنولوجيا هنا لا تلغي المبيد، بل تعيد وضعه في مكانه الصحيح: وسيلة عند الضرورة، وليس ممارسة روتينية.

مخاطر إساءة الاستخدام في المبيدات

كل تقدم يحمل تحديات، فمن دون سياسات واضحة قد تحدث مشكلات، مثل:

  • استحواذ المزارع الكبيرة على التكنولوجيا على حساب الصغيرة
  • الاعتماد الزائد على التقنية ونسيان مبادئ المكافحة المتكاملة مثل الدورة الزراعية والمقاومة الحيوية
  • مخاوف الخصوصية وملكية البيانات الزراعية

لذلك يجب أن تسير الرقمنة جنبًا إلى جنب مع السياسات الزراعية والاستدامة، لا بمعزل عنها.

مستقبل المكافحة الزراعية

يشير الخبراء إلى أن المرحلة المقبلة لن تعتمد على اختيار “تكنولوجيا أو مبيدات”، بل على دمج الاثنين في نظام متوازن. ومن المتوقع أن يصبح المَزارع قادرًا قريبًا على:

  • مراقبة الحقل عبر هاتفه المحمول
  • الحصول على تنبيهات تلقائية عند ارتفاع مخاطر الإصابة
  • تلقي توصيات رقمية مدعومة بذكاء اصطناعي
  • تطبيق المبيد بالجرعة المناسبة وفي النقطة المناسبة فقط

وكلما زادت البيانات وتضاعفت الخبرة المجمعة من الحقول، أصبحت التوصيات أكثر دقة، وتقلصت الحاجة إلى الرش العشوائي.

 الخلاصة

الرقمنة ليست خصمًا للمبيدات، بل بديلًا للاستخدام العشوائي وغير الرشيد لها. الأمن الغذائي العالمي ما يزال يحتاج إلى المبيدات، ولكن بكميات مدروسة ووفق استراتيجيات حماية بيئية وصحية.

السؤال الصحيح ليس: هل يمكن الاستغناء عن المبيدات؟ بل: هل يمكن إستخدام المبيدات بذكاء بدلًا من الإفراط؟

حتى الآن تشير الدلائل إلى أن الإجابة نعم، لكن النجاح يعتمد على:

  • دعم التكنولوجيا للمزارع الصغير
  • توفير التدريب والإرشاد
  • الاستثمار في البنية الرقمية
  • وجود سياسات تنظيمية تحفّز الاستخدام المسؤول

التقنيات قادرة على خفض استهلاك المبيدات عالميًا بشكل ملموس — لكن الذكاء الحقيقي ليس في الآلة، بل في كيفية إدارة المعرفة الزراعية واتخاذ القرار في الوقت المناسب.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى