د طارق عبدالعليم يكتب: الصادرات الزراعية وقرارات جديدة من الإتحاد الأوروبي بشأن ملف الكربون؟
باحث- المعمل المركزي للمبيدات – وزارة الزراعة -مصر
قراءة هادئة في آثار آلية تعديل الكربون الأوروبية على الصادرات الزراعية
اعتبارًا من الأول من يناير 2026 ….يشهد النظام التجاري العالمي مرحلة إعادة صياغة غير مسبوقة، تقودها اعتبارات المناخ والاستدامة إلى جانب اعتبارات السوق التقليدية. وفي هذا السياق، يبرز إعلان الاتحاد الأوروبي عن التطبيق الكامل لآلية تعديل الكربون على الحدود (CBAM) كأحد أهم التحولات التي ستؤثر على حركة التجارة الدولية، بما في ذلك تجارة الغذاء والمنتجات الزراعية.
ورغم أن الآلية تستهدف في مرحلتها الأولى عددًا محددًا من الصناعات كثيفة الانبعاثات، فإن آثارها غير المباشرة تمتد إلى قطاعات أخرى، يأتي في مقدمتها القطاع الزراعي، ما يطرح تساؤلًا مشروعًا حول مدى استعداد الصادرات الغذائية للتعامل مع هذا الواقع الجديد، ومن خلال هذه المحاور نرصد عدد من الحقائق وهي:
من التقارير إلى الإلتزام المالي
بدأ تطبيق CBAM في مرحلته الانتقالية منذ أكتوبر 2023، حيث التزمت الدول المصدّرة بتقديم تقارير عن الانبعاثات الكربونية المرتبطة بالسلع المصدّرة إلى الاتحاد الأوروبي. أما بدءًا من يناير 2026، فستتحول هذه المرحلة من مجرد التزام تقريري إلى تطبيق مالي فعلي، من خلال إلزام المستوردين الأوروبيين بشراء شهادات كربون تعكس حجم الانبعاثات المصاحبة لإنتاج السلع المستوردة.
هذا التحول يعني أن الكربون لم يعد عنصرًا بيئيًا فحسب، بل أصبح جزءًا من تكلفة المنتج عند دخوله الأسواق الأوروبية.
الصناعات الأكثر تأثرًا… ولماذا الزراعة معنية؟
تشمل قائمة السلع الخاضعة لـ CBAM في مرحلتها الأولى صناعات الأسمنت، والحديد والصلب، والألومنيوم، والأسمدة، والكهرباء، والهيدروجين. ورغم غياب المنتجات الزراعية من هذه القائمة، فإن إدراج الأسمدة يجعل القطاع الزراعي في دائرة التأثر غير المباشر، نظرًا لاعتماد الإنتاج الزراعي عليها بشكل رئيسي.
وتُعد الأسمدة النيتروجينية من أكثر الصناعات كثافة في الانبعاثات الكربونية، لاعتمادها الكبير على الغاز الطبيعي والطاقة التقليدية، وهو ما ينعكس في النهاية على تكلفة إنتاج المحاصيل الزراعية الموجهة للتصدير.
الغذاء في معادلة الكربون العالمية
تشير التقارير الدولية إلى أن أنظمة الغذاء تمثل نحو 30% من إجمالي الانبعاثات العالمية لغازات الاحتباس الحراري، أي ما يزيد على 16 مليار طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنويًا. ويعود جزء كبير من هذه الانبعاثات إلى الأنشطة داخل المزرعة، مثل استخدام الأسمدة، والطاقة في الري، وعمليات ما بعد الحصاد.
هذه الأرقام تفسر الاهتمام المتزايد بإدخال الزراعة ضمن سياسات المناخ العالمية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما يجعل الصادرات الزراعية مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإثبات التزامها بمعايير الاستدامة.
تحديات الصادرات الزراعية للدول النامية
بالنسبة للدول النامية، تمثل آلية CBAM تحديًا مزدوجًا. فمن ناحية، تُعد الأسواق الأوروبية من أهم وجهات الصادرات الزراعية، ومن ناحية أخرى، فإن متطلبات قياس وتوثيق البصمة الكربونية لا تزال تمثل عبئًا فنيًا ومؤسسيًا على كثير من المزارعين والمصدرين، خاصة صغار المنتجين.
وفي حال غياب بيانات دقيقة ومعتمدة، قد يتم اللجوء إلى قيم افتراضية أعلى للانبعاثات، ما يؤدي إلى زيادة التكلفة النهائية للمنتج، ويؤثر سلبًا على قدرته التنافسية داخل السوق الأوروبي.
فرصة لإعادة هيكلة الإنتاج الزراعي
ورغم ما تحمله CBAM من تحديات، فإنها تفتح في الوقت نفسه نافذة لإعادة النظر في أنماط الإنتاج الزراعي، والانتقال التدريجي نحو نظم أكثر كفاءة في استخدام الموارد وأقل كثافة في الانبعاثات. ويشمل ذلك تحسين إدارة التسميد، والتوسع في استخدام الطاقة المتجددة في الري والتعبئة، وتبني الممارسات الزراعية الذكية مناخيًا.
كما أن تطوير نظم وطنية لحساب البصمة الكربونية للمنتجات الزراعية يمثل خطوة مهمة لحماية الصادرات، وتعزيز قدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية.
فرص للتكيف وتحويل التحدي إلى ميزة
- التحول للأسمدة منخفضة الانبعاث أو العضوية: الاستثمار في بدائل الأسمدة أو تقنيات إدارة التسميد دقيقة الجرعات يقلل الانبعاثات ويخفض احتمالات التعرّض لرسوم
- قياس وانخراط مؤسسي في شفافية الانبعاثات: بناء أنظمة حساب وتتبع الكربون على مستوى المزارع والمعامل التعبئة سيمكن المصدر من تقديم بيانات أصلية أقل من القيم الافتراضية المفروضة. هذا يتطلب تدريبًا ودعمًا تقنيًا.
- التجميع والتعاقد: تشجيع تعاونيات التصدير لتوحيد بيانات الامتثال وتقاسم تكاليف الاعتماد والتدقيق سيكون له أثر واضح على خفض التكاليف الفردية.
- الاستفادة من الدعم الدولي: البرنامج الأوروبي لربط الشراكات الخضراء ودعم القدرات قد يوفر تمويلًا للتحوّل المنخفض الكربون للمصنعين والمصدرين.
توصيات عملية سريعة لصناع القرار والمصدرين في مصر
- إعداد خارطة طريق وطنية لقياس انبعاثات سلسلة القيمة الزراعية (خاصة الأسمدة والطاقة والعمليات).
- دعم مالي وتقني للمزارع الصغيرة لتبني ممارسات أقل كثافة للكربون (إدارة تسميد محسنة، ممارسات زراعية محافظة على الكربون.
- تشجيع تنويع أسواق التصدير وإضافة قيمة محلية (تصنيع بمعايير منخفضة انبعاث) لتقليل الاعتماد على سوق واحد مع شروط دخول متشددة.
- إطلاق برامج تدريبية للمصدرين حول متطلبات CBAM، وكيفية جمع وإثبات بيانات الانبعاثات لتجنب اعتماد قيم افتراضية مرتفعة.
مع اقتراب عام 2026، يصبح من الضروري التعامل مع آلية تعديل الكربون على الحدود باعتبارها واقعًا جديدًا في التجارة الدولية، وليس مجرد إجراء مؤقت. والغذاء، وإن لم يكن في صدارة الصناعات المستهدفة، يظل جزءًا من هذه المعادلة بحكم ارتباطه الوثيق بمدخلات إنتاج عالية الانبعاثات.
لذلك إن الاستعداد المبكر، وبناء القدرات المؤسسية، ودعم المزارعين والمصدرين، كفيل بتحويل هذا التحدي إلى فرصة، وضمان استمرار تنافسية الصادرات الزراعية المصرية في ظل قواعد تجارة عالمية تتغير بوتيرة متسارعة.






